من سيحرك العاصفة؟ التاريخ أم المستقبل؟

 لانستطيع أن ننكر أن الأحداث تتلاحق.. ولانستطيع أن نختبئ خلف  حالة الانكار.. في الأزمات لاشيء يقتل مثل الانكار وخداع الذات والنوم في حضن الأوهام على نغمات وأناشيد حماسية.. الكل يتساءل ماذا حدث؟ وكيف حدث؟ والى أين؟ ومتى؟ معدل مواليد الأسئلة أكبر من معدل مواليد الأجوبة بل تكاد الأجوبة لاتلد.. وانكسر التوازن بين الجواب والسؤال لصالح السؤال الذي صار ثقيلا مثقلا بالغموض وربما مسكونا بالقلق والهواجس.. ولكن بالطبع سنذهب معا في مشوار صغير ورحلة عاجلة نطل من خلالها على الحقائق والتفسيرات التي تحاول الفرق الاعلامية الخاصة والكثيرة والمدربة باتقان على ردمها وعلى ذر التراب على كل القطع الذهبية للحقائق كيلا تشع في عيوننا..


قرار الجامعة العربية بدا مفاجئا للكثيرين واستثمرته قوى "محور الشر" استثمارا لاأملك الا أن أبدي اعجابي بتلك المهارة الفائقة في سرعة الاستثمار وسرعة التصنيع وسرعة التسويق والدعاية والاعلان ..انجاز لايبقي لدي شكا أن من يدير المشروع السوري المعارض قوى جهنمية متمرسة لديها ترسانة من القدرات الاعلامية والنفسية الهائلة ..

قبل كل شيء.. القيادة السورية بالرغم مما يقال عنها كانت استثنائية على مدى العقود الأخيرة وتمكنت من تلافي الأمواج العاتية والعواصف ولاينكر ذلك الا مراهقون ثورجيون يقللون من مكانة الديبلوماسية السورية والفكر السياسي للمدرسة السورية الحديثة..التي تسلحت بأذرع أخطبوطية وارتبطت بعدة منظومات اقليمية ودولية وبلغت طموحاتها حد تشكيل تحالفات اقليمية واسعة واللعب على الجغرافيا لتغيير الخرائط السياسية الكبرى ..ومشروع ربط البحار دليل على نظرة شديدة الطموح لم يكتب لها النجاح بسبب خلل المعادل التركي الذي كسر المنظومة الاقتصادية التي حاولت المدرسة السورية تركيبها حولها ..معادلة خاطئة بسبب التعجل باحتضان العامل التركي عاطفيا ..

مانعرفه يقينا.. هو أن مكاتب القرار السوري عندما تدرس عبر اجتماعاتها المعطيات على الطاولة لاتتعامل بطوباوية مع الأحداث ولاتتعامل بلامبالاة مع الأمور ..ولايغويها السير خلف الأحلام وهدهدة المورفين... على الطاولة وفي كل الأزمات (وخاصة في هذه الأزمة) كانت هناك دوما أسئلة معقدة جدا وعدد لاينتهي من الاجابات والاحتمالات .. وخارطة طريق عليها التحالفات الثابتة والمتحركة ونقاط القوة والضعف .. وأمام كل احتمال خطة مقترحة ..والهدف الذي وضعته كل خطة هوالوصول الى كسر "المؤامرة" من نقطة ضعفها الرئيسة .. وليعذرني الثورجيون وجماعة "المامنحبكجية" الذين سأسميهم جماعة "منحبك يانونو" أي "الناتوجية" وجماعة "البرهانجية".. وليسمحوا لي باستعمال هذا المصطلح (المؤامرة) الذي يثير حفيظتهم دائما فيسلطون علينا من هو مختص فقط بنزع أسنان هذا المصطلح والباسه لبوس الهلوسة والهذيان والخيال وكأن الأمريكان لايفكرون الا باكتشاف المريخ والاسرائيليين لايفكرون الا بشرب الشاي مع أحمد فتفت .. لكن أنا أحب هذا المصطلح كثيرا لأنه يستفز الثورجيين ..وسأستعمله لسببين ..الأول لاغاظتهم والثاني لأنني ملتزم بقول الحقيقة كما التزامي بشهادة لاأله الا الله ..محمد رسول الله ..والحقيقة هي أننا في قلب مؤامرة عظمى ..هي بامتياز "أم المؤامرات"..

القيادة السورية لديها معطيات تقول ان محور الشر الذي تتزعمه الولايات المتحدة مستقتل لابتزاز القيادة السورية وعصرها حتى آخر رمق للحصول على مكاسب "عراقية" قبل انتهاء الانسحاب من العراق الذي ان تم سيكون تواصلا هائلا بلا انقطاع لمحور مخيف من ايران الى لبنان ..
وكذلك هناك محاولة مستميتة لاطلاق الحرب "السنية" على ايران "الشيعية" التي بعد خروج الأمريكان ستكون الأقوى في العراق .. بحيث أنه في هذه الحرب ستشكل سوريا وتركيا رأس الرمح العسكري بتمويل سعودي-خليجي أي المال العربي والدم السوري (وكذلك السني في المنطقة) لتخليص اسرائيل من عدوتها ايران ..مثلما حصل في حرب الخليج، مال عربي ودم أمريكي لأمن اسرائيل ..وقد تكون هذه الحرب الطائفية طريقة لتجريد مصر وشمال افريقيا من أسنانها الاسلامية حيث ينجرف الاخوان المسلمون في مصر الجديدة وتونس الجديدة وليبيا الجديدة ويمتصهم الثقب الأسود الطائفي بسرعة اثر حرب دعاية تحريضية برعت فيها الجزيرة والعربية ووسائل الاعلام الأخرى وسيتلقفها أغبياء الحركات الاسلامية كعادتهم ..
وهناك من يشير الى ان من نتائج هذه الحرب الدينية العنيفة أن ينفلت الأقباط في مصر على هذا التورط ولذلك تحصل عملية فصل عبر ترانسفير جماعي للاقباط ينفذ بالتدريج خلال سنوات قليلة نحو سيناء بعد فترة من القلاقل لتشكل حاجزا بشريا طبيعيا أمام أي احتكاك قادم بين مصر واسرائيل على أساس أن الأقباط سيحسون في اسرائيل رديفا وظهيرا حاميا لهم من الاخوان المسلمين المصريين ..وسيكون من نتائج الحرب الطائفية ماحاولت اسرائيل انجازه عام 2006 وفشلت وهو افراغ الجنوب اللبناني من الشيعة وتهجير مسيحيي سوريا بحجة حمايتهم الى لبنان (المسيحي) وتشكيل حزام مسيحي واق لاسرائيل يخشى من التطرف الاسلامي والبحر الاسلامي المحيط به فيتحالف مكرها مع اسرائيل التي حسب معاهدها الاستراتيجية لافائدة ولاأمان من البقاء على احتكاك بالعالم الاسلامي الذي قد يظهر فيه دائما مجاهدون ورؤساء يغيرون اتجاهه نحوها ويثيرون القلاقل فيها .. ولذلك فان الأمن يتحقق بحزام بشري طبيعي أقل عدائية نظريا لأنه سيجد في اسرائيل ظهيرا ورديفا من الجو المحيط الاسلامي الملتهب ...اي اسرائيل تنام قريرة العين في سرير دافئ محاطة بسور واق مسيحي يصد عنها (كما جيش أنطوان لحد تماما الذي كان يمتص العمليات العسكرية ضدها).. انه الحل الوحيد لبقاء اسرائيل التي تعلمت من درس المملكة الصليبية أن الفناء حاصل لامحالة من بقاء اي دويلة كاسرائيل لاتحيط نفسها بشرنقة عازلة عمادها حاجز بشري حليف..   

الولايات المتحدة واسرائيل في سباق مع الزمن.. والمعطيات تقول ان حمد بن خليفة قد أعطي كل الدعم عبر رسائل صارمة تأمره بتنفيذ ورقة عمل على جانب السرعة .. حمد  بالطبع ليس وطنيا ولاعروبيا لكنه كان مترددا لحسابات خاصة جدا في استفزاز السوريين والايرانيين ..لكن الاوامر الصارمة والتطمينات التي تلقاها مباشرة بعد ساعة من مغادرة وليد المعلم للدوحة شجعته على استمرار العملية ..
الأمور الآن تسير نحو محاولة  انهاكنا اعلاميا واستثمار لاينتهي لاعلان الجامعة العربية .. وهناك استعدادات لاطلاق عملية تضليل كبرى تستعمل فيها كل تكنولوجيا التزوير والصورة لفبركة حدث كبير مثل انشقاق مهم مثلا .. ومحاولات اغتيال تثير الكثير من التشويش والتساؤلات ..ولكن كل هذه التفاصيل موضوعة بأدق تفاصيلها على طاولة القياديين السوريين حسب مايعتقد الكثيرون ممن يعرفون أكثر مما نعرف..ويحاولون التعامل معها بهدوء شديد ودون عصبية وانفعال ..وأحد المعنيين المحيطين بالرئاسة السورية المعروفين بمهارته في فن ادارة الأزمات يرفع دائما شعار: "اهدأ..ثم اهدأ ..ثم اهدأ...خسارتك تبدأ عندما تصاب بالهلع" ..وهي قاعدة صارمة جدا في الديبلوماسية السورية..

السؤال ان كانت الخطوة العربية تمهيدية لاقتراب الناتو.. والجواب حسب ماأتيح لي من معطيات سريعة أن محور الشر يراهن على تفكك ذاتي للشعب السوري ولقواه عبر اضعاف معنوياته على طريقة اسقاط قذائف اعلامية متلاحقة ومفاجآت تجعل مستوى الثقة بتماسك السلطة مهزوزا ..هذه حرب اعلامية تستعمل فيها كل تقنيات وعلم الحرب النفسية على الاطلاق ..مثل اعطاء الشعور أن الخطوات تتلاحق وأن الجامعة الآن تحتفي بغليون كشخص قادم اليها رسميا وأن الروس يبدو عليهم التردد وأن استقبالهم لفريق المعارضة وخوضهم مفاوضات التجارة العالمية يعني أنهم يبيعون القيادة السورية للتحضير للانسحاب .. بل ان دعوة القيادة السورية لاجتماع قمة عربي صار يصور على أنه بداية تراجع وتوسل وطلب الرحمة ..هذه الطريقة الاعلامية قديمة جدا ويقال ان خالد بن الوليد استعملها في معركة اليرموك وسماها "الكراديس" حيث دخل بجزء من قواته وأمر الباقين أن يدخلوا على شكل دفعات متلاحقة متتالية على مرأى من جنود الروم الذين ما ان انتصف النهار حتى اعتقدوا أن أمواج المقاتلين العرب التي يرونها بشكل واضح تتلاحق بشكل لاينتهي ونهر لايتوقف فبدأ التخلخل في الصفوف وأوامر التراجع  ..

ماذا على الأرض السورية؟
على الأرض كانت قد وصلت أولى طلائع فرق مكافحة الارهاب وقوات حفظ النظام السورية التي تلقت تدريبات عالية جدا في روسيا خلال الأشهر الماضية وكانت أولى مهامها التعامل مع المسلحين في حمص دون اللجوء للآليات الثقيلة كما تعهدت سوريا للجامعة ..وكان أداء هذه الوحدات مدهشا للغاية وتمكنت من استثمار عمل الاستخبارات والمعلومات التي وفرتها وحدات التنصت والحرب الالكترونية التي بعثت بها دولة صديقة (ليست ايران بالتأكيد .. وهذه الدولة قلقة من المد الاسلامي لأنه قد ينفجر لديها فقررت ايقافه على الجبهة السورية) ووحدات التنصت عالية التجهيز والمهارة هي التي جعلت كل حركة وهمسة في حمص مسموعة في قصر الشعب .. وكانت العملية ناجحة بشكل منقطع النظيرحيث تم قصم ظهر الكتلة الرئيسية للمسلحين بسرعة غريبة وبقيت منهم بضعة سرايا معزولة تجري محاولة رصدها ..واحتوائها
وكان محور الشر والجامعة يراهن قبل مهلة الاسبوعين على حرب طاحنة مع التنظيمات المسلحة الكبيرة "المستوردة" تستمر لأسابيع بحيث يتم ارسال صور مباشرة للقتال الشرس الذي سيبرر للجامعة اتخاذ قرار بعزل سوريا وارسال القضية لمجلس الأمن لفرض عقوبات قاسية اقتصادية تكون مقدمة لاعلان الحلف نيته في تقديم السلاح علنا لمقاتلي الحرية عبر معسكرات حدودية تركية ولبنانية واردنية مع غطاء جوي محدود لايستفز روسيا ولايكون بمثابة اعلان حرب لكنه كاف ليكون حرب استنزاف منهكة تبقي السوريين على مقلاة مجلس الأمن ليل نهار لعدة اسابيع أوأشهر ريثما يظهر تشقق في تحالفات دمشق الرئيسية أو الى حين نضوج المرحلة الثانية من الخطة ..المعدة سلفا ..

عملية حمص مذهلة ومفاجئة وقبضت على أسرار ثمينة جدا أهم من الأسلحة الصاروخية التي لم يتمكن المسلحون من استخدامها بعد مغافلتهم باتصالات واختراقات جعلتهم يتلقون أوامر متناقضة فوقعوا في فوضى حتى أن بعضهم فوجئ أنه كان يتحدث الى ضباط استخبارات طوال ايام دون درايته ..وستبقى تفاصيل العملية التي نفذت بدقة في حمص درسا جديدا في كيفية عمل عدة تقنيات وتجهيزات لاستئصال تجمعات مسلحة شديدة التحصين والتدريب دون اللجوء للآليات ..
الرد على انجاز حمص المفاجئ كان تسريع الخطوات في الجامعة العربية التي لم تكن تفهم سبب موافقة السوريين على التعهد باخراج الآليات والمظاهر المسلحة رغم معرفتهم بأن حمص صارت عش الزنابير السام ..ولذلك قال حمد بن جاسم بوقاحته عند اعلان الاتفاق بأن المناورة والاحتيال غير مقبولين .. وكان من الواضح أنه بغياب دليل عن حرب شوارع عنيفة تستعملها الجامعة كذريعة لابد من اتخاذ القرار وطبخه بسرعة وقراءته حتى من دون نقاش كما صار يتسرب ..
القيادة السورية قررت الذهاب الى أقصى حد في اللعبة ..أي الدعوة الى اجتماع قمة .. لأن خطوة سورية قادمة اذا ماتمت قد يقال بعدها ان السوريين لم يحاولوا عرض وجهة نظرهم على القيادات العربية وفعلوا مافعلوا دون عرضه على "أشقائهم" العرب وذلك في لعبة التنصل من المسؤولية يجيدها الزعماء العرب ..
على الأرض أيضا رسالة من روسيا عبر راعي كنيستها بطريرك الكنيسة الأرثوذوكسية ولتوقيت زيارته مدلول كبير .. وعلى الأرض أيضا محاولة مجموعة من الكنائس الغربية التي بدأت التحرك للضغط على الحكومات الغربية للخروج من اللعبة السورية لأن هناك ادراكا أن قلب الثورة السورية اسلامي راديكالي يشكل عدم استقرار على كنائس الشرق كلها.. ولقد اطلعت على بعض الايميلات الخاصة بتلك التحركات الغربية..

لاأحد يجيد فن القاء الدروس علينا كما التاريخ ..ولكن لاأحد يلقي الدروس على التاريخ سوى المستقبل ..المستقبل هو أستاذ التاريخ الوحيد بلا منازع .. في قرار العرب الأخير يجلس التاريخ والمستقبل يتناظران ..أستاذ وتلميذ يقرآن لنا ماذا فعل العرب بأنفسهم ..التاريخ جلس عابسا يتأمل هذه الجوقة العربية ثم انسحب من الجلسة .. أما المستقبل فقد قرر أن يتحدث فقال:
هناك عاصفة قادمة.. لكنها ليست ككل العواصف.. انها العاصفة التي تفاجئ التاريخ لأن المستقبل يحب أن يلعب قليلا مع التاريخ.. التاريخ لايعرف من الألعاب سوى لعبة وحيدة هي أن يعيد نفسه.. ولايوقفه الا يد المستقبل الذي لايحب اعادة الدروس بل يحب أن يعطي الدروس ويحب أن يزود التاريخ بقصص أخرى والا وقع الأخير في التكرار وتوقف الزمن عند نهاية كل دورة.. التاريخ حدثنا عن ثورة عربية بمعونة اوروبة لطرد الأتراك العثمانيين.. ويريد هذا التاريخ أن يعيد القصة كعجوز خرف يعيد القصص عن ربيع عربي لاعادة الأتراك الاسلاميين بمعونة أوروبة..
دورة التاريخ لايحول مسارها الا رأي المستقبل.. فماذا سأقول للسوريين؟

أيها السوريون
لقد حمي الوطيس.. ونستطيع سماع حمحمة الخيول الأصيلة.. وحمحمة البغال العربية.. العالم كله يترقب المعركة الفاصلة في التاريخ الحديث التي ستكون بمثابة معركة العلمين في الحرب العالمية الثانية والتي غيرت مجرى الحرب.. فجاء المستقبل..

لدى القيادة السورية أقوى حليف في التاريخ.. انه أغلبية ساحقة من الشعب.. لم تستطع كل القنوات الغربية التي تابعتها تجاهلها اليوم وتحدثت عنها باستغراب.. هذا الالتفاف الهائل من الناس لم تحظ به قيادة سورية أو عربية على مر التاريخ الحديث.. حتى أن القيادة نفسها منتشية جدا بهذا النصر الانتخابي العفوي وهذا الشعور لديها وخاصة لدى الرئيس الأسد كان رسالة قوية ومعبرة للغاية تلقفتها القيادة السورية.. انها مسؤولية تاريخية والرئيس لديه دين كبير سيؤديه لهذا الشعب.. سيقود هذا الشعب نحو انجاز جديد.. الشعب السوري يستحق أن يكون الشعب الذي يختاره المستقبل لاداء مهمة كسر عظم التاريخ..
يتكئ المستقبل كله الآن على أكتاف السوريين لينجز مهمة تحويل عربة التاريخ ليتوّجهم كشعب يهزم التاريخ ويصنع المستقبل .. شعب الله الجبار