أردوغان الذي ربح الانتخابات.. وخسر معادلة الصفر، والشرق والغرب

التاريخ سيذكر أن أردوغان وحزب العدالة التركي هما السبب في انفصال تركيا بشكل تراجيدي موجع عن ماضيها ومستقبلها بعد أن قطع أتاتورك صلتها بماضيها وحاول وصلها بالمستقبل كما اعتقد..
الفرصة الذهبية الرائعة التي طوّح بها أردوغان كشفت قصر النظر التركي وذكرتنا بما كان يقوله أجدادنا عن خبرة وعشرة ومعرفة بالأتراك ..فالكبار في السن في سوريا لايزالون ينعتون الغبي والمتشنج في رأيه وعقله المنغلق بأنه عقله "تركي" ..
في التاريخ ارتد العسكر الاتراك مهزومين عن أسوار فيينا منذ زمن بعيد وارتد سياسيوهم كذلك عن أسوار الاتحاد الاوروبي الفولاذية خائبين ..أوروبا رفضت اعطاءهم أي غطاء وأي قميص بعدما خلعوا ثيابهم الاسلامية وفانيلاتهم الداخلية ليثبتوا للحسناء الاوروبية أنهم أوروبيون معتادون على طقس اوروبا البارد وآن لها أن تأويهم في بيتها الدافئ الثري.. فتخلص الأتراك من حروف القرآن الكريم العربية وخلعوا الطربوش وحلقوا واللحى وألغوا عقوبة الاعدام والزنى وخلعوا الحجاب ..لكن 70 عاما كانت كافية ليحس الأتراك بالقشعريرة وليتذكروا أن السرير الشرقي هو الفراش الذي ناموا فيه بدفء 400 عام..

اعتقد الأتراك انهم يعاقبون أوروبا بالعودة الى المياه الدافئة في الشرق الاوسط  وبالايحاء أنهم فهموا الدنيا على حقيقتها بعد أن أحسوا ببرد الصقيع والعري على أسوار أوروبا..
عندما قرر الأتراك العودة الى تكايا الشرق نكاية بالحسناء الأوروبية ظهر نجم الدين أربكان لكن اربكان كان مثاليا اسلاميا فاستبدل بنسخة عقلانية كانت عصارتها رجب باشا اردوغان..
الفتح الذي قام به أردوغان جنوبا كان استثنائيا...ففتح قلوب العرب بمفتاح "غزة وأسطول الحرية" وهستيريا مسرحية دافوس فكان ان فتحت مدن العرب له ومتاجرهم لاقتصاده فانتعش الأتراك سياسيا واقتصاديا..وهنا التفتت أوروبا الى العاشق العثماني الذي صدته عنها..
لايستطيع اردوعان ان ينكر انه لفت أنظار الحسناء الأوروبية عندما رأته ذا تأثير في الشرق العربي المسلم ضرتها التاريخية ..أردوغان لم يكن قادرا على ابتزاز اوروبا الا عندما اعطاه العرب والسوريون تحديدا الفرصة لذلك فتركيا للأوربيين هي جزيرة مقطوعة زمنيا عن الشرق ويفصلها عن اوروبا مضيقا البوسفور والدردنيل اللذين (على ضيقهما) يضاهيان اتساع المحيط الأطلسي في عين أوروبا..
تركيا كانت اذا كائنا من الماضي مشردا له أب اسمه أتاتورك لكنه بلا أم لأن الأب طلق الأم طلاقا بالثلاثة ثم رماها في الهاوية السحيقة من الذاكرة..احتقر الاوروبيون الولد المتشرد وازدروه وحولوه الى مكان للفسحة والمطاعم والشمس..
نهض اردوغان ونفض غبار التاريخ وأغبرة التشرد ومد يده للسوريين فأنهضوه وأدخلوه الى دمشق وبيروت وبغداد والى فلسطين..رقص الباشا وشرب الانخاب حتى ثمل..
تذكرنا حكاية أردوغان الثمل بحكايا الانجيل (العهد الجديد) حيث يحكى أن سالومه قد طلبت من الملك هيرودوس رأس يوحنا المعمدان ثمنا لرقصتها التي دوخت الملك فكان لها ماأرادت.....وأردوغان يلعب اليوم دور الملك الثمل وأوروبا (الاسرائيلية) تلعب دور سالومه فيما دمشق هي يوحنا المعمدان
في السر بعثت الحسناء الأوروبية رسالة غرام الى الباشا الذي كان يهدم حصون التاريخ في الشرق ويعلن تمدده على وسائد البيت الشرقي ليعود سيدا..الرسالة كانت مختصرة "آتني برأس دمشق وستكون رقصتي القادمة معك"
فكر الباشا بعقله "التركي" الساذج وقال في نفسه: ان أتيت برأس دمشق نلت أوروبا وأنا على فراشي الوثير الدافئ الذي بموت دمشق سأكون سيد الشرق وزوج الحسناء الاوروبية القوي ..
اما السياف (فيروز) الذي اختاره "العقل التركي" لقطع رأس دمشق فكان غير فيروز الحكايات الشهريارية ..فيروز العرب في هذا الزمن كان حمد بن خليفة آل ثاني وسيفه البتار المسمى "الجزيرة" التي قطعت رؤوس الفرسان والصناديد والفراعنة..
لكن أين أخطأ الملك هيرودس التركي أو .... أين أخطأ الباشا أردوغان؟
للعقل التركي حسابات في منتهى الغرابة ولاغرو أن الأوربيين يعرفون أنه لايجيد الحساب.. وأكثر مايضحك في العقلية التركية هي معادلة داود أوغلو الرياضية العبقرية التي يروج لها وكأنها نسبية جديدة لاينشتاين "تركي" ..هذه المعادلة المجنونة تسمى (تصفير المشاكل) ..وهذه العقلية الغريبة التي تنتج معادلات مستحيلة هي التي تعتقد أنها ستقود الشرق وكأن الشرق أرض صحراوية بلا مشاكل وأنها واحة تنتظر الباشا لينزل فيها ويشرب الماء القراح ...
الباشا اردوغان لم يتمكن من الاتيان برأس سوريا رغم كل انفعالاته ونصائحه على مدى ثلاثة أشهر، ورغم تمثيلية اللاجئين الذين يقوم برعايتهم والحنو عليهم..
الباشا نسي تماما أن خلفه تماما بلدا اسمه روسيا لاتريده باشا من جديد ولن تسمح له أن يتمدد كسلاطين بني عثمان على فراش الشرق مهما فعل وتلوى..
والباشا نسي أن السوريين تحديدا شعب لايوجد موضع ابرة في جسده ليس فيه ضربة سيف أو طعنة رمح ..وهذا شعب تذوق طعم السكاكين التركية في الظهر ويعرف كيف يردها..فلا نامت أعين الجبناء
والباشا نسي أن تركيا الديمغرافية نسخة كالمرآة عن سوريا ..ففيه أكراد وعلويون وأقليات وقوميات..وأن مايراه في سوريا سيراه في المرآة التركية بحذافيره..
والباشا نسي دم مليون أرمني ذبحهم جده في هولوكوست الأرمن الشهير وان لاجئي جسر الشغور لايساوون جزءا بسيطا من لاجئي الأرمن الذين احتضنهم السوريون في حاراتهم وبيوتهم ولم يجمعوهم في خيام ليتاجروا بهم في العالم..وأن الملف الأرمني لايقرر الغاءه الا أرمن سوريا (الطبيعية)..(وقد لمست بنفسي أن أرمن سوريا صمتوا عن محاولة تبرئة الأتراك من المذبحة كرمى لعين سوريا لكن الأرمن كشعب لايزال هو المحكمة التي تصدر حكمها النهائي عليهم..)
المحتجون الذين راهن عليهم الباشا يخسرون تدريجيا معركة القلوب والعقول التي راهنوا عليها لفصم الشعب عن الدولة والنظام... وبعد عنفهم الدموي في جسر الشغور وغيره تعاني جماهير الثورة -على ضآلتها- من نزف حاد في أعداد الموالين والمؤيدين..وتعاني بوادر انشقاق ومن نفور الناس منهم ورغبة قوية في اطلاق يد الدولة فيهم..
الثورة السورية انكفأت وسيف فيروز وقع على عنق دمشق فتثلم وانكسر السيف ..وسالومه الأوروبية لم يصلها رأس دمشق فلذلك هي في حل من أي اتفاق مع الباشا الذي اعتقد أنه سيضحك على الشرق والغرب ..فأضحك الشرق والغرب عليه..فماذا بقي لتركيا بعد أن خسرت دمشق؟ ..وفي دمشق يربط العرب خيولهم..وينام الشرق كله "واقفا على ظله"
خسر اردوغان الشرق كله الذي استعاده وخسر معه ثقة الشرق بالأتراك وسيقف الأتراك قريبا جدا كالمقامر الذي خسر ماله كله وخسر مال أبيه وشرف أمه .. ووقف وسط الطريق يتلفت حوله وقد أصيب بالصدمة فيما الناس يروحون الى اعمالهم ومستقبلهم..
هذا هو آخر عهد لحزب أردوغان في حكم تركيا التي ستكتشف أن معادلات تصفير المشاكل في السياسة بهلوانيات غير عاقلة.. والصفر يؤدي الى نتائج الصفر..الصفر التركي هو خسران الشرق وخسران الغرب والحصول على أرباح الصفر..
ويبدو لي أن زيارة الوفد السوري الى أنقرة لم تكن بطلب سوري بل بطلب ودعوة تركية في محاولة للتقليل من الخسائر الجسيمة ..فليس لدى السوريين مايقولونه للباشا سوى..(عد الى حجرتك أيها الشيخ ..فلا أمل في احيائك) ولذلك لم يتمكن الباشا من ارسال وفد الى دمشق كيلا يفهم أنه كولن باول يقدم شروطه ولجأ الى العكس وهو دعوة السوريين الى أنقرة لعرض التفاوض ..وملاطفات الوفد السوري عن تركيا الشقيقة هي مجاملات الديبلوماسيين عندما يتلقون دعوة ويصرحون مايصرحون من على أرض الضيف...لكن الأهم أن الوفد السوري مرتاح لما قدمه الأتراك من وعود رغم أنه لايوثق بعهدهم..