صرخة أرخميدس وضحكة ممدوح عدوان.. ورسالة الى الجزيرة

هناك نوع من الحوار يجعلك لاتعرف مشاعرك فهو يثير ضحكك وفي نفس الوقت يثير سخطك وغضبك ..وتحتار .. أتلبي رغبتك في الضحك أم رغبتك في الغضب؟ .. لكن هناك ماهو أكثر بلوى .. وهو الحوار الذي تمر فيه كل المشاعر البشرية عليك دفعة واحدة كخليط عجيب يجعلك شخصية لاصفة لها الا "المختل عقليا" .. هذا الحوار الذي لاتستطيع فيه قاومة نوبة من الضحك الهستيري .. لكنك تنتبه وأنت منتش مسرور الى حقائق مذهلة معترضة في عبارات الحوار تسبب لك الذهول المفاجئ فيتوقف ضحكك كما لو كنت تضغط الفرامل في سيارة مسرعة ..ثم تتوقف فجأة أمام كلمة أو كلمتين تضيفان مشاعر الغضب والسخط الى مشاعرك في نفس لحظة الفرملة المفاجئة .. وعند تدقيقك في الانسجام المنطقي للعبارات المنطلقة من فم المحاور تحس برغبة بالبكاء ولاتقدر على تجاهل مشاعر الأسى والخيبة التي تحيط بقلبك كالغمام والضباب والدخان ..وتستنتج أن هذا الحوار يجبرك على العيش في ظروف نفسية متضاربة يعجز معها علم التحليل النفسي عن التواصل معك لانقطاعك عن العالم الواقعي .. هذا هو ماتعيشه اثناء الحوار مع المعارضين العرب .. وبالذات مع المعارضين السوريين الأشاوس ..
 
عندما استعانت المعارضة العراقية بالأمريكيين للوصول الى السلطة قامت قيامة الاسلاميين العرب على "العلاقمة الجدد" العراقيين الذين أدخلوا هولاكو من جديد .. واستمعت بنفسي الى حناجرالاسلاميين تغضب وتتمزق صراخا .. ورأيت الزبد يتطاير من أفواههم وهم لايستطيعون التوقف ثانية لابتلاع لعابهم بل يستخدمون كل ثانية لاطلاق الشتائم على هذه المعارضة "العميلة" .. وقد كنت أنتشي وأنا أرى الرذاذ والمطر الهاطل من الأفواه وأطمئن على مستقبل العرب .. ولكن يابلدي الطيب يابلدي .. وعندما جاء الدور على جميع المعارضات العربية ..وبالذات السورية ..رأيت نفس الزبد يخرج من نفس الأفواه الغاضبة انما هذه المرة لتخوين من لايطلب دخول الناتو الى بلداننا وقصفنا باليورانيوم المنضب مثل العراقيين والليبيين .. كل المعارضات تريد الحرية حتى بتدمير لقمة عيش الفقراء وتدمير أمنهم وأمانهم ..وسرقة اللحظات الفرحة والحزينة واختطاف سهراتهم العائلية ..وتحيات الصباح والمساء بين الطوائف..وبقطع ألسنة المآذن والكنائس كيلا تتبادل الحديث..

منذ بدايات هذا الربيع الرومانطيقي وأن أخوض الحوارات مع الجميع وأبحث عن اصدقائي المعارضين بألوانهم كافة وخاصة من ذوي التوجه الاسلامي شؤون الوطن والحرية ..لأفهمهم..
كانت بداية انفعالاتي التي نوهت لها أعلاه (حيث أتخبط في مشاعري وارتكاساتي المتناقضة) قبل بدايات الربيع التونسي عندما كان أحد أصدقائي الصحفيين يروي لي كيف حذف العبارات المؤيدة لحرائق هذا "الأخرق" البوعزيزي من مقالته كيلا تحجب الصحيفة مقالاته وراتبه .. وكان يتحدث معي عن التسامح الجميل في سوريا وعن احتقاره للاسلاميين الذين حرص على توبيخهم وتوصيفهم بعبارات نابية بذيئة وحدثني عن معاناته من منطقهم الاسمنتي (هذه الكلمة هي بالضبط مااستعمله) .. بل وكان يصر على دعوتي لشرب (الكاس والطاس) معه في بيته نكاية بهؤلاء "الأوغاد" ..الى أن فوجئت به ينضم للمعارضة ويصبح عضوا في المجلس السوري الانتقالي بل ويجلس الى يمين الشقفة ويسار الطيفور ويتمسح بجميع ذوي اللحى الطويلة ويستميت في اطلالاته الفضائية الكقيرة في الدفاع عن الثورة السورية التي لم تنطلق الا من المساجد .. ولأنني أحترم العشرة وخصوصية الحديث مع الأصحاب فلا أستطيع الا أن أنسحب صامتا من صداقتي به مكللا بكل الخيبة..ولايمكنني عندما أراه الآن الا أن أصاب بذلك المزيج من الضحك والبكاء ..والبكاء والغضب ..والغضب والغضب ..
صديق آخر يتحدث من الولايات المتحدة الأمريكية كثورجي الى الفضائيات الثورجية لاأزال أذكر أنني عندما ودعته في مطار دمشق منذ سنوات قال لي بأنه لن يعود الى دمشق لأنه يرى ردة اسلامية في المنطقة وهو يخشى أن يربي أولاده في هذا الجو الراديكالي لأنه أميل للحرية .. وقال لي بالضبط: (أخشى أنني سأعود ويكون الاخوان المسلمون في الحكم ..عندها سأطلق النار عليك وعلى نفسي لنتخلص من هذا الرزء والعار) ..قال ذلك قبل أن ينفجر ضاحكا !! واليوم يدرك صديقي هذا ان الحراك هو حراك ديني وان بلاليع المنطقة طافت بالاسلاميين من تونس الى مصر ولن تكون سوريا استثناء في حراكها فهو حراك راديكالي اسلامي لايمكن دحض وجوده .. الله ياصديقي كم كان زمننا جميلا وكم صار زمننا رديئا ..هل ستطلق النار على نفسك الآن ..أم على صديقك الذي ستطلق النار عليه لأنه لم يؤيد ثورتك .. لايمكنني الا أن أصاب بذلك المزيج من البكاء ..والبكاء..والضحك ..والغضب ..ثم البكاء
لكن الحديث الذي لم يمكنني أن أتعامل معه الا بالفشل الشديد في لجم ضحكتي التي انفجرت ولم تتوقف حتى هذه اللحظة وأنا أكتب هذه الكلمات وأهتز من الضحك وأنا أنقر على أزرار الكومبيوتر هوالحديث الذي سمعته من أحد الاسلاميين الذي كان يتحدث الي منذ أيام بين الهمس السري والجد الشديد بأن الاسلاميين يضحكون على الأمريكيين من مبدأ "التقية السياسية" وأنهم أبرموا صفقة مع الأمريكيين يتبرؤون فيها من سياسة العداء للغرب واسرائيل وما ان يستتب الأمر لهم حتى ينقلبوا عليها ..ويبدأ التحرير ..وتصبح كلها أفغانستان من تونس الى تركيا..!!
لا أذكر في هذا السياق الا عبارة الامام علي " يا حلوم الأطفال ويا عقول ربات الحجال" التي لم تقل الا لمثل هؤلاء المجانين ..
فياصديقي لاتوشوشني ولاتخفض صوتك وأنت تهمس عن التقية السياسية فبرنار هنري ليفي يسمعك حتى في خواطرك .. ماهذه الثورات التافهة التي قلبت أنظمة حكم كانت تمارس التقية السياسية فاذا بها ثورات تعلن أن التقية السياسية مبدأها؟ لقد قرأت عن تاريخ كل ثورات البشرية ولم أسمع أن ثورة مارست التقية السياسية خاصة اذا مانتصرت .. آه لو سمع مظفر النواب (قبل ان يقبل عتبات القصور الأميرية) ماقاله ثوار العرب عن التقية السياسية .. مظفر قال يوما: "لازلنا نتوضأ بالذل .. ونمسح بالخرقة حد السيف" ..ومظفرأقسم (بأعناق أباريق الخمر .. ومافي الكأس من السم .. وبذاك الثوري المتخم ..) ..وربما سيقول مظفر هذه الأيام: "لازلنا نتوضأ ببول الامريكان ونمسح بالتقية السياسية حد السيف" ... لكنه لن يجد شيئا ليقسم به الا مافي الكأس من السم الاسلامي..
ثورات مهيضة الجناح تسير على كرسي متحرك مصنوع في أمريكا ..تماما كما وصفها الراحل الكبير ممدوح عدوان الذي دعاني يوما في دمشق الى مسرحيته عن السفربرلك وأيام الثورة العربية الكبرى وقدم خلالها الثورة العربية على شكل عجوز عاجز يجره أحدهم على كرسي متحرك .. ولما سألته ان كان قد ظلم ثوار ذلك الزمان ضحك ضحكته المجلجلة وتركني أخمن رأيه ..لو كان ممدوح عدوان حيا بيننا لضحك ضحكته المجلجلة اذا ماسألناه عن الثورة والثوار في ربيع العرب.. ولقال لنا: ماذا؟؟؟ ثورة ؟؟؟ وثوار؟؟؟ ثم عاد الى ضحكته المجلجلة التي لاتفارقني..ثم أشعل سيجارته كعادته ولربما قال: لقد قلت لكم يوما عندما دنا أجلي: ها نحن ننهض عن مائدة العمر ولم نشبع .. لكنني سأضيف الآن بأنني محظوظ بهذا النهوض المبكر عن مائدة العمر قبل أن أتذوق هذه النكهة الثورية..المجنونة ..المؤلمة كالموت ..

هذه ثورات مليصة المولد لاتقدر على رفع الصوت دون تقية الا في شوارع مدنها وأوطانها ضد مواطنيها .. الثورجيون السوريون لم يمارسوا التقية السياسية مثلا في تهديدهم للأقليات .. وللعرعور وللطرطور وللقرضاوي أناشيد دينية وألحان ومسرحيات ومطولات في تهديد الأقليات دون أية تقية .. وفي نداءات المظاهرات الدينية والطائفية لا تقية سياسية اطلاقا ..لكن عند التطرق لاسرائيل والغرب يتفنن الاسلاميون في التقيات السياسية والتخفي..ويتسابق الكل للتذاكي وألعاب الخفة الغبية ..ويلعبون الغميضة مع الاسرائيليين ويختبؤون خلف التقية السياسية .. وخلف ظل برنار هنري ليفي الحنون الرؤوم ..
تبوّل الجنود الأمريكيون على جثث الاسلاميين وتبوّلوا على قرآنهم .. ولم نسمع قبضايا واحدا ولاعرعورا ولاقرضاويا شتم وغضب وكتب بيانا ودعا للجهاد بل التزم الجميع الأدب وابتلع البول في حلقه .. فيما اسلاميونا يهرولون بجلابيبهم من تونس الى تركيا الى مصر لتقبيل أيدي الايباكيين في نيويورك .. بالله عليكم قولوا لي ماالفرق بين حملة الانتخابات الامريكية واغداقها الكرم على أمن اسرائيل وبين الثورات الاسلامية التي تغدق في منح الأمان لاسرائيل؟؟!! كلاهما منافق يمارس "التقية السياسية" لكن الايباكي الصهيوني يمسك بلجام الحمار "الديمقراطي" والفيل "الجمهوري" .. والبعير "الاسلامي" ..
"حلوم الاطفال وعقول ربات الحجال" تعتقد أن الصهيوني برنار هنري ليفي ومعاهد الأبحاث الامريكية التي تعمل ليل نهار وقدمت مالايقل عن بضعة ملايين ورقة بحث عن الاسلاميين قد نامت في العسل الاسلامي .. "حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال" تعتقد أن هؤلاء الصهاينة لايعرفون مثل هذه الألاعيب والسجايا والتقيات والتقنيات .. وأنها ما أعدت للأمر عدته ووضعت في كل تيار اسلامي ناسفات فكرية ووعاظا عملاء ومراجع دينية جاهزة ودور افتاء ستفتي بشرب بول الجندي الامريكي اذا مابال على الجثث في الشرق .. وستفتي بأن الأقصى ليس مكان الاسراء والمعراج بل ان "الله أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى الهيكل الثالث الذي باركنا حوله"..!!
"حلوم الاطفال وعقول ربات الحجال" يعتقدون أن من ركب ظهر تنظيم القاعدة (التي قيل انها جندت 19 انتحاريا في هجمات نيويرك وواشنطن ولم تفعل بعدها شيئا مما يثير السؤال) ووجّهه ليجنّد 4000 انتحاري قتلوا عشرات آلاف المدنيين العراقيين ليس له القدرة على ركوب نفس الموجات الاسلامية وتجنيد عشرات ألوف الانتحاريين لتفجيرهم في كل زوايانا..
"حلوم الاطفال وعقول ربات الحجال" لايسألون لماذا أطلقت أميريكا بلحاج الليبي من أقفاصه في غوانتامو بعد أن دربته كحيوان السيرك ..ولايسألون كيف تتغاضى أميريكا والغرب عن تمويل قطر والسعودية للاسلاميين ولبرامج الجزيرة وهي قادرة على منع ذلك لولا أمر ما تعد له الولايات المتحدة ..
أعتقد أننا صرنا نتفق جميعا أن لاطائل عن الحديث مع المعارضات العربية - والسورية تحديدا - وربما لافائدة من الانشغال بثرثراتها وفلسفاتها ومد اليد اليها .. وذلك ليس لأننا لا نجيد الحوار أو أننا لانريده ..وكذلك ليس لأننا مستعجلون لاعلان الحرب على خصومنا واننا بلطجية وشبيحة .. بل لأن كل المعارضات العربية - والسورية تحديدا- قد قالت كلمتها الأخيرة (وتقيتها السياسية) وعرفنا تركيبها الكيماوي وخواصها الفيزيائية واضطراباتها النفسية .. وعرفنا أزماتها العنيفة والأخلاقية الخطيرة .. وعرفنا أن أرخميدس نفسه لن يجد حلا أخلاقيا لهذه المعارضات مهما غطس جسده في الحمام ..
أرخميدس خرج عاريا وهو يصرخ بفرح طاغ: (يوريكا ..يوريكا) أي وجدتها ..وجدتها .. وكان ماوجده معادلة ان الذهب يزيح من الماء بمقدار كتلته .. لكنني أستطيع أن اصرخ مثل ارخميدس (يوريكا ..يوريكا) دون ان أكون في الحمام ودون أن أغطس في الماء .. بل وجدتها في تجولي في المجالس الوطنية الانتقالية .. وجدت أن كل المعارضات العربية لاتزيح قطرات من ماء أية سلطة لأن هذه المعارضات ليست لها كتلة ولاوزن أخلاقي ولاوطني ..هي ذراع أمريكي..
ليس من عادتي الانسحاب من الحوار في الشأن السياسي أو التسليم بالهزيمة عند وجود قضية كبرى لكن فيما يخص الثورجيين العرب فقد جفت المصطلحات وأنهكت طرق الحوار وتعبت الاقلام دون أن يطرأ تحسن طفيف على مجموع العلل التي أصابت هذه المعارضات بل انها تتدحرج من كارثة الى أخرى ومن فخ الى آخر..ومن عار الى عار ومن فضيحة الى فضيحة ..ومن نقيصة الى نقيصة .. نعم صار التخاطب مع هذه العقول المعارضة مصدرا للأسى
وفي نهاية هذا المقال سأرسل الى أصدقائي المعارضين هذه الكلمات التي انطلقت بعد ليلة امتزج فيها جنوني ببكائي وبضحكي وغضبي عندما قرأت بيانا لثورجية الجزيرة والعربية ومذيعيهما الغر الميامين يستنكرون وقوف الجامعة العربية الى جانب السلطة السورية ..هؤلاء المذيعون يهزون ذيولهم حول أميرهم كما تهز كلاب الصيد ذيولها أمام سيدها وهو يأمرها بالانقضاض على الأيائل:

اسمحوا لي أن أحتقركم أيها السادة .. 
بل سأحتقركم من غير استئذان لأنكم جديرون به حقاً
 ما أنتم سوى حشرات طيارة، لكن ليس من ذاك الفراش الذي يحوم حول الضوء الملتهب .. بل من تلك التي تندفع وراء القاذورات، وتنفر من الورد والعطر، وتلجأ للظل هاربة من النور 
 أنتم دويدبات تلعق الجروح وتعفنها..  كم أود أن ألعنكم نيابة عن الموتى في القبور ..

وكم أود لو أحاكمكم محاكمات يوم القيامة أيها المتلفعون بأقنعة الجهاد .. وأقنعة الإنسان  
لو تدرون جوعي لاحتقاركم ... إنني أتضور جوعاً كليث لم يأكل منذ أسابيع ، ولن يأكل إلا أعناق الفرائس وأكبادها
أيها السادة المتعملقون وأنتم أقزام الأقزام، ما أنتم إلا هياكل شمعية تذوب كالشمعة الحمقاء التي تحمل حتفها على رأسها تتباهى به باكية ... ما نحن إلا لهب من جهنم، تحملونه على رؤوسكم..
يا دمى الكرتون .. إني خجل من دهسك بحذائي ، فأنا لا أدهس إلا رجال الهزيمة الأبطال، ولا أجيد سحق الخسّة والنذالة ورموز النفاق .. إني أخجل ..إني أخجل ..إني أخجل.. أعلم أنكم قتلة ... وكل ثوري وطني حقيقي يقول لكم: أعلم أني مقتول بكم .. لكن حياتي في مماتي.