أسئلة عنقودية عن نهاية الثورة السورية

من الخطر أن نتحدث في الشأن السوري عند عدم توفر الدقة.. ولكن من الأخطر ألا نتحدث في الشأن السوري عندما يكون العالم كله ينتظر ما ستتمخض عنه الأحداث السورية.. وخاصة عندما تكون غاية الخصوم من الحديث في الشأن السوري اطلاق أعنّة الأكاذيب و سراح الكراهية واليأس كما هو الحال في أحاديث الجزيرة التي لم يعد لائقا تذكير القراء بأنها مكان للرذيلة المهنية ولمصادرة العقل والزنا الأخلاقي.. فالجمهور - من مؤيدين ومعارضين - قد وصلوا الى هذه النتيجة .. ورغم اصرار المعارضين على انكار معرفتهم بهذه الحقيقة فان تعلقهم بها يدل على أنها تؤرقهم..

منذ بداية الأحداث مشينا معا أيها الأصدقاء عبر كل المراحل وأطللنا على المنعطفات الهامة وأمسكنا بأيدي بعضنا لنشجع بعضنا في هذه الرحلة الشاقة في البحث عن الحقيقة .. فنحن كنا في وجه عاصفة من عواصف التاريخ الكبرى وعواصف الخيانات الكبرى في التاريخ الانساني ..وأستطيع أن اقول باعتزاز أننا لم نضع أقدام توقعاتنا الا في المكان الصحيح الثابت واتكأنا على الصخور الكبيرة وعبرنا معا عبر شهور طويلة من خلال ممرات ودهاليز الأسرار التي أوصلتنا الى النتائج الصحيحة المصقولة كالماس ..وكان كل ما قلناه عن جعجعة أردوغان الفارغة وتحركات الناتو الاستعراضية وثرثرات الجامعة العربية، دقيقا ولم يجانبه الصواب..

اليوم لاشك أن السؤال الملح هو سؤال عنقودي ..أي سؤال في بطنه حاضنة قنابل عنقودية فيها اسئلة أخرى كثيرة على مبدأ القنابل العنقودية التي يحلو للاسرائيليين انهاء حروبهم بها لقتل مدنيينا غدرا وهم آمنون ...السؤال الكبير: هل انتصرنا؟ أم نحن ننتصر؟ أم هل سننتصر؟ ومتى ؟ وما الذي يحدث اذا؟

 

هذه المرة لن نذهب الى أي مكان ناء ولن نسأل مكاتب الأبحاث والدراسات والمتابعات بل سنسأل شوارع الثورة والتمرد وسنتجول بين الحقائق ونرفع مالدينا من معطيات لنقوم بالتحليل والتفسير واعطاء النتائج الدقيقة كما الاحصاءات والعمليات الرياضية والمعادلات الصارمة .. ومن المسلمات أن حركة المجتمع التي رصدها كارل ماركس وفريديرك انغلز وخلطاها بجدلية هيغل ومادية فيورباخ صارت علما يتنبأ بالتحولات الاجتماعية وبفترات الثورات اثر الاختلال الطبقي وتوزع الثروات .. واكتشاف الحتمية التاريخية

ان تطبيق الجدلية والحتمية التاريخية يقضي بقيام التغييرات الاجتماعية عند نضوج ظروفها أما عملية تفقيس الثورات الصناعي فلن يقوم بانتاج ثورات بل ثرثرات .. ولذلك فان عنصر الجدلية والحتمية التاريخية لايتوفر للربيع العربي وبالذات للسوري ويجعله بالتالي منتجا لمنتج لايستحق الا اسم مؤامرة حتمية !! بدل التاريخية الحتمية

أما كيف ستتطور أحداث وظروف الثورة فقد لا نفاجأ اذا ما استعنّا بعالم الاجتماع الأول ابن خلدون .. يقول ابن خلدون في عمر الدولة (أو الحركات الاجتماعية هنا ) أنه يمر بمراحل هي باختصار: البداوة والعصبية ثم الحضارة والاسترخاء والتمدن وبعدها الانحلال والتفسخ والانهيار ..بالطبع أنا لست ابن خلدون بالرغم من أنني قرأت له بعض مقدمته بصعوبة وأزعم أن برهان غليون يعرفه أكثر مني فهو اختصاصه - كما أعتقد - الذي صدع رؤوسنا به ..لكن يبدو أن برهان لم يعد يذكر لا مقدمة ابن خلدون ولا مؤخرته وصار حبيسا لمقدمة "ابن غليون" وربما مؤخرة برنار هنري ليفي ..

على كل حال أثبتت نظرية ابن خلدون أنها مرجعية نظرية كبرى في علم الاجتماع لاتزال ترخي بظلالها على نظريات علم الاجتماع ولو أردنا قياس تطور الثورة السورية بمقاييس ابن خلدون لوجدنا أنها قفزت من العصبية والبداوة الى الانحلال والتفسخ دون المرور بمرحلة الحضارة والتمدن ..

وعلى العكس فان النظام (كدولة) الذي كان من المتوقع أن يكون في مرحلة التفسخ والانحلال ليدخل في الانهيار فانه استقر في مرحلة ما قبل دخول الانحلال والتفسخ والانهيار بوجود شخصية رئيس شاب لديه طموح وانجاز وطني ورصيد سياسي محترم .. حيث قام هذا الشاب بانزال مجموعة من المراسي من سفينته ورفع الأشرعة في الأنواء عبر مراسيم واصلاحات ثبتت السفينة التي كانت تيارات نظرية ابن خلدون وعواصفها تجرفها نحو الشلالات والتحطم ..ويبدو أن ثباتها في المرحلة الثانية وهي مرحلة الاستقرار ستطول أكثر مما يتوقعه الكثيرون..

وبالمقابل فان الثورة السورية مرت بتطور غريب مشوه لنظرية ابن خلدون ..فقد عجزت الثورة في الانتقال من العصبية والبداوة الى مرحلة الحضارة والتمدن .. وبقيت تتأرجح وتتقافز بين مرحلة العصبية وبين مرحلة الانحلال والتفسخ دون المرور بالتطور الطبيعي .. فتسلح الاحتجاجات منعها من هذا التطور الطبيعي ونقلها الى التفسخ والانحلال لسبب بسيط هو أن الحاضنة الرئيسية لأية ثورة قد تخلت عنها وهي الحاضنة الشعبية التي كانت تتسع في بدايات الأحداث بفعل الاعلام الأسود والدعاية السوداء والتي صورت النظام قاتلا ثم سوقت فكرة رحيله السريع وضرورة القفز الى مركب الثورة ودغدغت مشاعر الناس بخطابات ووعود بدخول تركي فاتح ساحق لا يعرف التردد وقد فقد صبره الذي سيتوج بأساطيل الناتو ..

لكن الجمهور الحاضن لم يتسع حجمه بل توقف ثم بدأ بالانكماش التدريجي .. وحدث لديه انشقاق واضح ..فهناك من تنبه الى أن القضية فيها تزوير وتضليل وتسويق لأحلام ليس لها واقع .. لكن الاهتزاز أصاب الحاضن الشعبي والذي تحاول الثورة اخفاء شقوقه التي بدأت بالظهور حسب الصحف الغربية الراصدة للاحتجاجات بدقة متناهية .. فجمهور الاحتجاجات قد يكون استدرج في السابق وتم تشجيعه بأن النجدة قادمة من تركيا والناتو ..ولكن هذا الجمهور على سذاجته لم يعد من السهل خداعه وقد رأى أن تركيا انكفأت على نفسها تنتظر عونا على مشروعها وتركتهم لمصيرهم .. فيما انشغل الناتو نفسه بصيانة سفنه .. وبدأ تطاول الزمن يفعل فعله في وصول الثورة بسرعة الى مرحلة سن اليأس ..فلم يعد هناك من شك أن الارتياب صار يحوم حول امكانية نجاح الثورة بعد الحماس الذي أصاب المحتجين في البدايات ودفعهم للاعتقاد انه قاب قوسين أو أدنى من قطف النصر وهذا ال "قاب" كان بقدر أسابيع فقط ..فاذا بهذا ال"قاب" صار بلا نهاية ..

وهناك حقيقة لا يمكن الفرار منها وهي اكتشاف الجميع وخاصة أعضاء المجلس الانتقالي وجمهور الاحتجاجات أن الصراع مع النظام ليس صراعا بين معارضة و سلطة معزولة .. بل هو صراع بين منظومات اقليمية ودولية معقدة ..فكما أن الثورة هي امتداد وأظافر لمنظومة دولية فان النظام في سورية جزء رئيس من منظومة كبيرة دولية متينة تكشفت روابطها من ايران الى روسيا والصين ..وغني عن القول ان النظام السوري كسلطة لم يكن قادرا على الصمود بامكاناته الذاتية أمام ضخامة ماكينة وطاحونة المنظومة الدولية الهائلة التي استهدفته لولا أن المنظومة التي تؤازره كلها تعمل كجهاز واحد متناغم وصلب ..ولكن الحقيقة التي يجب احترامها فهي أن المنظومة الداعمة للنظام بحد ذاتها لم تكن قادرة على تثبيت النظام السوري لولا اكتشاف الثقل السياسي والشعبي المحيط بالرئيس الأسد والأهم احاطة الجيش السوري كالسوار بالمعصم بالنظام والذي حاولت المؤامرة استخدام بعض المظاهر الشعبية كمفكات "براغي" ومثاقيب لاختراق تماسك الجيش السوري وسواره ..

لم يعد السؤال لدى الباحثين الاستراتيجيين هو هل ستنتهي الثورة لأن ذلك صار من المسلمات والبديهيات .. لكن السؤالين المهمين هما السؤالان الصعبان وهما: متى؟ وكيف؟

في ما يتعلق بالاطار الزمني لا يبدو من الحصافة الاعتقاد بتاريخ محدد ويوم محدد ..وربما أدخل الناس في احباط من تحديد يوم بذاته اذا لم يتحقق ذلك التوقيت ..فليس من طبيعة الأحداث السياسية والأزمات في أي مكان وزمان أن تعلن انتهاءها بشكل السقوط الحر الشاقولي ..فكل الأزمات السياسية بل البشرية تمر باقلاع وذروة ارتفاع ومن ثم الهبوط التدريجي .. وقد يكون الهبوط التدريجي سريعا أحيانا عندما يكون اضطراريا أو طيرانا شراعيا ..لكنه لن يكون يوما محددا ..

اذا ما راجعنا تسلسل الأحداث فلا يمكن اعتبار أن أحداث اليوم –رغم عنفها - شبيهة في قلقها واقلاقها بأحداث الأسابيع الأولى أو النصف الأول ..ففي تلك الأيام كانت هناك عصيانات كبرى مثل جسر الشغور وحماة وبانياس ودرعا وكانت هناك مدن خارجة عن السيطرة بل وخضعت بشكل ما للنظام الجديد الطالباني ..وكانت هناك انذارات تركية شرسة ومشاريع مجلس الأمن وانذارات الجامعة العربية بالساعات ..واليوم لم يعد هناك سوى تحركات مسلحة في شريط بين حمص وادلب ..تلجأ غالبا للتخفي والسراديب والأنفاق بدل اطلاق عملية تحرير علني للمدينة في وضح النهار ..وتعنى بشيء واحد فقط هو اطلاق الحرب الأهلية لاعادة احياء الدعم والأمل التركي والناتوي بعد انحسارهما بشكل كبير .. ولا تمكن قراءة التفجيرين الارهابيين الأخيرين في دمشق الا على أنه انعدام أي احتمال لحرب خارجية من تركيا أو برعاية الناتو .. ولذلك تم اللجوء لتكتيك الحرب القذرة من الداخل التي تعيدنا الى مرحلة الثمانينات وتقصد بالتفجيرات رفع معنويات "الثوار" .. وهي المرحلة الأخيرة التي أجهزت على تنظيم الاخوان المسلمين في السابق كما نذكر جميعا ..

أي أننا دخلنا مرحلة الهبوط التدريجي للرحلة "الثورية" .. والثورة تصارع الآن للبقاء في الأجواء لكن العاصفة حطمت المحركات ويطير ربابنة الثورة طيرانا شراعيا وهم يعلمون أنهم لايزالون بعيدين عن أي مطار ليتفادوا التحطم .. وسنرى في قادم الأيام قفزا مظليا حرا لبعض قيادات الثورة ..كما يحاول هيثم المناع أن يقول..

كيف ستنتهي الاحتجاجات؟

اذا كان الاعتقاد أن الثورة السورية ستنتهي نهاية عسكرية مدوية على يد النظام –على طريقة الثمانينات- فهذا اعتقاد من لا يعرف السياسة .. وهو اعتقاد من لا يعرف الرئيس الأسد وعقليته ..وهو اعتقاد من لا يقرأ التاريخ والمنطق ..وهو أيضا اعتقاد من لا يعرف الفرق بين الكارثة والمشروع الوطني ..

أما تفسير ذلك فهو فيما يلي:

في تشريح الثورة نجد مكونين (أو جناحين) هما جناح عسكري صار معروفا وجناح مدني يتمثل في حاضن شعبي مبعثر محدود للغاية له أزماته الاجتماعية والاقتصادية والنفسية وهو مأزوم دينيا ..

أما الجناح العسكري فقد وضع نفسه في مواجهة غير متكافئة مع أحد افضل أجهزة الاستخبارات في المنطقة وأهم لاعب في مراقبة التنظيمات الاسلامية ناهيك عن تفوقه في القوة العسكرية الهائلة للنيران ..وهذا ما سيجعل أية مواجهة عسكرية معه لا يبدو احتمال النجاة فيها يتعدى الصفر.. ولم يعد سرا أن أحد أهم أسلحة اجتثاث مسلحي حمص مثلا هو في اغراق التنظيمات المسلحة المتغلغلة في المدينة بمتطوعين اسلاميين موالين للنظام من عدة جهات لرصد المسلحين في حمص وفي جهات أخرى تم تكليفهم بتقديم كل المعلومات عن المسلحين حتى عن قياسات أحذيتهم وألوان سراويلهم الداخلية !! وذلك لاجراء أكبر عملية رصد ومتابعة ورسم خارطة دقيقة وواسعة عن كل جغرافيا وتوزع وقيادات المسلحين وامكاناتهم.. لأن العملية العسكرية المسترشدة بمعلومات استخباراتية ثرية ستسمح بالاستئصال تحت تخدير متقن ..عملية ربما كانت مقررة في بداية الأسبوع لاجتثاث المسلحين قد تم تأجيلها بسبب تقارير عن وصول انتحاريين من لبنان كان من المفترض وصولهم الى حمص فاذا بالأخبار تشير لتغيير وجهتهم نحو دمشق ومدن أخرى لتنفيذ عمليات ما .. وناهيك عن تداول معلومات عن محاولة المسلحين اجراء تعديلات على خارطة توزعهم بعد توجيهات خارجية ملحّة تؤكد وجود اختراق استخباري سوري لا تعرف أبعاده بعد

اما الحاضن الشعبي المحدود والمأزوم فسيتم التعامل معه على مستويين ..

القاعدة التي ستسود في معالجة التمرد المدني المحدود فهي أن الحاضن المدني لن يعامل بقسوة بل بالاستيعاب والامتصاص لاسترداده وجدانيا ونفسيا بعد تجريده وفصله عن المحرض العسكري الذي سيستأصل.. لكن التكتيك الرئيسي سيعتمد على طريقة ضرب المغذي الرئيسي المعنوي لهذا الحاضن المدني واجراء عملية فطام وقطع لأثداء الأم وهو متمثل في قوتين معنويتين هما تركيا والسعودية اللتان تشكلان الذراع الغربي الاسرائيلي الرئيسي في المشروع .. ولولا هذان الذراعان لما استطاع المشروع الغربي الدخول الى سوريا لأن استعمال العواطف الاسلامية هو أهم محرك للثورات العربية ومنها السورية طبعا ..

تركيا تم تحييدها "تقريبا" على مرحلتين كما صار واضحا ..فقد أبعدت وأطفئت الخطابات الأردوغانية ويتم الآن التفاوض بشكل غير مباشر لقطع الأسلاك التركية الواصلة الى اللغم المسلح لابطال مفعول القنبلة ولطي المظلة السياسية التركية التي يستظل بها المجلس الانتقالي ..الذي سيكون في العراء خلال فترة ليست ببعيدة وبشكل بعيد عن الأضواء .. اذا ما تمت الصفقة لأن تركيا لاتزال تتلفت يمنة ويسرة في حيرة عل معجزة تحدث لاخراجها من ورطتها ..

أما القوة الثانية فهي السعودية الزعيمة الطبيعية للخليج العربي وليست قطر .. بالرغم من أن التركيز الاعلامي السوري على قطر فان السعودية هي القوس الثقيل والوتر الذي تستند اليه السهام القطرية والغربية نحو سوريا قبل انطلاقها ...فبندر بن سلطان هو مخطط رئيسي وداعم وممول .. والاعلام السعودي أشد سوءا من القطري ..والعربية ووصال والعرعور لايقلون بذاءة واذى عن القرضاوي وعزمي بشارة ..الفارق الوحيد أن القطريين يحاولون التأثير على النخب السورية فيما تولى السعوديون قيادة الغوغاء والرعاع والبسطاء في الأرياف ..

السعودية يجب أن تنكفئ ويجب أن تصدر اوامرها الى قيادات الجناح المدني بالتسليم ورفع الراية البيضاء وأما كيف ستكون السعودية مضطرة لايقاف ضخ المال والاعلام الأسود واصدار الأوامر لرفع الرايات البيضاء والدخول تحت مظلة النظام فهو أمر لايزال مثار جدل رغم ما يقال عن طريق الضغط على منطقتي الوجع السعودي ..تماما كما تم الضغط على مواجع الدولة التركية ...

أنا ليست لدي معطيات عن منطقتي الوجع السعوديتين ..فأين هي مواجع المملكة العربية السعودية؟

هل احداهما هي المنطقة الشرقية السعودية التي تتهيأ للانطلاق وتتنحنح؟ ..هل هي في اليمن حيث حليف السعوديين يتخلخل ؟ هل في الحوثيين (على طريقة أكراد تركيا)؟ هل هناك مواجع خفية لاندري بها؟ السعودية ستضطر للانسحاب حسب المحللين الغربيين ان عاجلا أم آجلا ولن يكون الوزن القطري فعالا من غير الثقل السعودي الذي سيفقد قوة الجاذبية ويصبح كالسائر فوق سطح القمر !!

ما لدي من معطيات أن السعودية بدأت بالاطلاع على بعض الأوجاع التي ستطلق حولها ..أم هناك سر آخر قد يفرج عنه قريبا؟