من نسف شوارع دمشق؟ ليلى أم الذئب أم فلاسفة الظلام المضيء؟

كتب أحد المستوطنين الصهاينة أنه عندما كان صغيراً وقف مع ابيه على سطح بيتهم الذي بني حديثا في مستوطنة جديدة في فلسطين قبل النكبة.. وعندما تلفّت الطفل حوله أصيب بالقشعريرة والخوف وهو يرى كيف أن مستوطنتهم الصغيرة محاطة بعدد لايحصى من القرى العربية التي كادت تشبه السوار المحيط بالمعصم فقال الطفل لابيه في جزع: ياالهي كم العرب كثيرون..!! فابتسم أبوه وقال وهو يمسك بيده: نعم كثيرون.. لكنهم غارقون في الظلام.. لاتخش ياولدي ممن يعيشون في الظلام..
ولكن هل تغير شيء منذ تلك الوقفة البعيدة في زمنها على سطح مستوطنة؟ ألا يزال الشرق يعيش في الظلام؟ أليست هذه الثورات هي محاولة لاطلاق الظلام من جديد؟ الظلام السلفي.. وظلام الجهل الوطني.. أليس في روايات تفجيرات دمشق من قبل الثورجية ظلام أكبر..!!
 
عندما وقعت تفجيرات دمشق منذ اسبوعين واستهدفت مقار أمنية واستخباراتية لم تفاجئني المعارضة بالقاء اللوم على السلطة بل وتسابق الثوار الى اطلاق مفوّهيهم الى كل القنوات كي يتم توجيه الناس نحو اتهام السلطات السورية بالتفجير بحجة استغلال التفجيرات يوم وصول وفد الجامعة العربية للتشنيع على المعارضة ..وكذلك بذريعة حاجة السلطة الماسّة لتجييش الرأي العام السوري ضد الثورة "البرئية" براءة الأطفال ..
لم أتفاجأ بهذه الهرطقات لأن السياسة الرسمية للمعارضة وللهيئات والتنسيقيات صارت واضحة وهي ارتكاب العنف الثوري وتبريره تحت غطاء البراغماتية "الثورية" واللجوء لارتكاب كل الفظائع طالما أن الاعلام العربي والعالمي جاهز لالصاق التهم بالنظام ..وتبين لنا أن كل الشناعات والرعب والدم الذي على يد الثوار وعلى شفاههم ويتقاطر من أسنانهم وعيونهم لاتراه وسائل الاعلام التي تقوم بالعكس بالقاء الدم على وجه وأيدي السلطات لاتهامهما بالدموية ..و"الثورة" السورية والناتويون العرب أدخلوا مفاهيم ثورية مستمدة من مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة وحصلوا على الغطاء الشرعي بالافتاء الثوري  لأن الحرب ليست خدعة فقط بل (الحرب قذارة أخلاقية) ..فالاسلاميون الجدد جاهزون عبر القرضاوي وغيره لاصدار أي فتوى "موسادية" ..وكأن الله العظيم سبحانه يعمل تحت تصرفهم وسيقبل "بالتوجيهات" الاسلامية التي يرسلها اليه المؤمنون من مساجد الثورة وستقبل جلالته بالفتاوى مهما كانت غير منطقية وسيقول لأصحابها كما يقول المسؤول الفاسد لرسالة توصية من فاسد آخر " يكرم أبو فلان (القرضاوي) ..موعلى راسي !!..اذا لافرق بين الفساد الحكومي والفساد الديني ..فلكل فتاواه ..  
الافتاء بالدم جاهز والمفتي جاهز والقتلة جاهزون والضحايا جاهزون ..لكن الذي ليس جاهزا لقبول الفتوى هو الله نفسه الذي لم يكن يوما موظفا لدى أي رجل دين فيما كل رجال الدين يعتقدون أن الله يعمل لديهم ولايرفض لهم فتوى .. رغم حقيقة أنه لم يتمكن رجل دين منذ الوجود أن يدعي أن الله لايرد له فتوى ولاطلبا ..الا القرضاوي والعرعور ..

رواية المعارضة بمسؤولية السلطة السورية عن تفجيرات دمشق السابقة تبناها بحماس المؤيدون للتمرد الذين لايزالون لايصدقون أن الثورة قد ركبها الموساد ومجموعة أجهزة استخبارات عربية توجهها .. ودافع الثورجيون بقوة عن هذا الرأي باتهام السلطة..والغريب أن قلة من المؤيدين للسلطة ربما قبلت بهذا التفسير كنوع من ميكانيزما الدفاع الذاتي النفسي لان هذا يعني لهم أن السلطة التي يعتزون بقوتها ليست ضعيفة لتتلقى تفجيرا قرب قلب مؤسستها الأمنية الصارمة ..بل انها تتحكم بكل شيء ..
والحقيقة أنه بالرغم من سخف هذه النظرية وجنون هذه التفسيرات فان كمّ الدعم الاعلامي لهذه التفسيرات الغريبة جعلها متداولة كاحتمال يمكن الأخذ به .. وبدل أن كان السؤال هو( لماذا يفجر الثورجية شوارع دمشق؟) تم تحويل اتجاه السؤال عبر انحناءة قسرية لنحصل على سؤال مشوه آخر هو: من المسؤول برأيك عن التفجير، السلطة أم المعارضة؟ وكان هذا التحويل القسري للسؤال دليلا على سطوة الاعلام الذي تحظى به الثورة السورية "الموسادية" فبرغم انها لم تستطع تثبيت الاتهام على السلطة فانها نجحت في تقاسم الاحتمال والمسؤولية مع السلطة عند بعض الناس على الأقل .. وهناك أناس بالطبع يحبون الغرائب في قراءة الأشياء ويقومون بترويجها حبا في التميز والاختلاف عن الناس حتى في المجتمعات الغربية .. فمثلا عندما مشى آرمسترونغ على سطح القمر برز تيار أميريكي يرفض أن يصدق وادعى أن المشاهد تم تصويرها في استديوهات هوليوود لحساب وكالة المخابرات المركزية الأمريكية .. وأما موت أميرة ويلز دايانا فهو عملية مدبرة  برأيهم لمنع احتمال أن يكون لملك انكلترة القادم أخ مسلم !! ..الخ من هذه الترّهات السينمائية التي لايبز سينمائيتها الا اتهام السلطة السورية بتفجيرات دمشق.. فصارت السلطة حسب هذه الاتهامات بلا عقل لأنها تقتل المدنيين وتقتل رجال الشرطة والجيش لأنهم يتمردون وينشقون ..كما تنفذ هذه السلطة الاغتيالات بحق الافراد المتفوقين والكوادر العلمية والعسكرية لأنهم لايوافقون على سياستها وتنسف الشوارع لالقاء الرعب في قلوب الناس وتخلق الازمات الاقتصادية لاشغال الناس بأسباب العيش ..الخ من أشياء لاتسمعها الا في أساطير مغامرات "هاري بوتر" وقصص "سيف بن ذي يزن" ..ولكن سلطة ثبتت أمام كل بلطجية العالم ليست على هذا القدر من الجنون حتى تمارس كل هذا البغاء والسقوط بل انها تتمتع بالحصافة والحذق ولايمكن أن تقع في خطأ التورط في التفجيرات في وقت هي بحاجة فيه للهدوء والاستقرار.. أما الثورة فحتى هذه اللحظة لم تعلن مسؤوليتها عن قطرة دم واحدة ولم تنسب لها عملية جريمة واحدة.. لأنها ثورة أكثر براءة من ليلى في قصة ليلى والذئب ..وبحسب النسخة المنقحة و"المعرّبة" من قصة ليلى والذئب التي ترويها لنا الجزيرة والعربية وبان كي مون وحمد بن جاسم فان ليلى هي التي تظهر لنا بأذنين كبيرتين وأنياب حادة قاطعة وتجلس في سرير الجدة تنتظر الذئب لتفترسه ..فيما الذئب المسكين يتعاطف معه العالم كله لأنه سمى نفسه "ثورة" ..والثورة طاهرة ولاتخطئ ..
ومايدعوني أكثر لليقين بمسؤولية الثورجية عن التفجيرات هو أنني التقيت منذ أيام ممثلا عن السلطة وهو من المقربين من صناعة القرار والتقيت بعده بأحد الثورجيين الدرعاويين ..وما فاجأني أن ممثل السلطة كان يتحدث معي بهدوء وتروّ ويغوص غوص الواثق بنفسه في طرق اطلاق مصافحة بين الناس المتمردين سلميا كأفضل حل للحيلولة دون اراقة دماء كثيرة رغم أن العنف الحكومي صار مبررا وهو أسرع في الحسم .. فيما كان حديث الثورجي الدرعاوي اليّ مليئا بالتوتر والتهديد والجنون وقال لي بالحرف: (ان مايحدث ليس الا البداية لتخريب هذا البلد على من فيه اذا لم تتحقق اهداف الثورة في "الحرية" و"الثأر" حتى لو تحولت سوريا الى ليبيا أخرى عشرين مرة) ..وهذا ماأعطاني دليلا قويا على أن الثورجيين قد قرروا طريق العنف دون أي طريق آخر..وأنهم مؤمنون أنه الخيار الوحيد .. فيما تحاول الدولة استبعاده استبعاد القادر والمتريث والكاظم غيظه الى أبعد الحدود..

وككل السوريين هذه الأيام لانزال جميعا نحاول قراءة تفجيرات دمشق ... والسؤال لم يكن عندنا هو ان كانت السلطة أم المعارضة هي التي دبرت العملية لأنه وفق كل المقدمات المنطقية فأن كل شيء محتمل الا أن تكون السلطة هي التي دبرت الهجوم لاعتبارات كثيرة أهمها أن ماستجنيه السلطة أقل كثيرا مما قد تخسره, لأن خسائرها المعنوية والاقتصادية التي ستؤذيها في الصميم وتهدد استقرارها أعظم بكثير من فائدة تغيير مزاج الشارع ضد الثورة عبر تفجيرات رعناء خاصة أن الشارع قد قال كلمته الكبرى بشأن الثورة وتقيأها بشكل واسع ولم تعد هناك حاجة لاقناعه بالمزيد من الكراهية والاحتقار وقلة المودة لهذه الثورة وانعدام الثقة في شلة المعارضين الاستانبوليين..
في محاولة للحفر عميقا في تفسير الانفجارات ومعرفة سبب اقبال الثوار على هذه المغامرة الخطرة بالتحرش بدمشق لم أجد أن الاعتماد على رواية أحد الأطراف سيكون أكثر اقناعا لكنني وجدت تحليلات محايدة لها وجهة نظر عميقة للغاية ..فقد حصلت على آراء بعض الخبراء الغربيين الذين يعملون بشكل مستقل عن المعاهد الممولة من قبل الدول والشركات الغربية والذين لهم توجهات يسارية في بلدانهم ويحاولون احداث خرق في سياسات الدول الغربية التي تسيطر عليها اللوبيات .. أحد هؤلاء الخبراء كانت له جولة في الشرق الأوسط منذ سنوات وعاش في رام الله بضعة أشهر ليكتب أطروحته في القانون الدولي وكانت تلك الأشهر نقطة تحول في حياته لينتقل الى معسكر ينشط ضد السياسات الغربية التي يهيمن عليها صهاينة ومحافظون جدد ..فيما تخصصت زميلته في الحركات الاسلامية وتفرعاتها وتكاد تكون قراءتها للتحولات الاسلامية دقيقة الى حد الدهشة عن التحولات التي ستطرأ على الحركات الاسلامية كنوع من الانعطاف القسري الذي سيرتد على المجتمعات الشرقية ..
كانت قراءة هؤلاء الخبراء لتفجيرات دمشق تحاول قراءة مالايرى في التفجيرات وهي لاتحمل الغرائبية بقدر ماتحمل جانبا أكثر اقناعا من كل الروايات التي سمعتها وقد استمالني تفسيرهم ..فهم يرون أن تفجيرات دمشق هي رسالة صريحة لتجار واقتصاديي دمشق ..وهؤلاء الخبراء يرون أن حلب ربما ستتلقى مثل هذه الضربات ..

أما تفسير هذا الاتجاه في القراءة فقد قام على مايلي:
بالرغم من أن الغاية من التفجيرات هي ارسال رسائل لرفع معنويات الثورجية ومحاولة لتوجيه ضربات نفسية للنظام بأن لهم قدرات ضاربة .. فلقد أدرك منظمو الثورة - سواء في جهاز الموساد أو المخابرات الغربية - أن الثورة لاأمل لها وهي بلا حول ولاقوة بعد أشهر طويلة كما ان التفاؤل بها صار محدودا للغاية طالما أنها لم تحظ بدعم المدينتين الكبيرتين دمشق وحلب اللتين تمسكان ربما بمفاتيح بلاد الشام وربما الشرق كله ..ودرس التاريخ القريب لاينسى، فقد مني الاخوان المسلمون بالهزيمة النكراء في الثمانينات بسبب تلكؤ دمشق وحلب باللحاق بهما لأسباب كثيرة وانضمامهما نهائيا الى المعسكر المضاد.. وهناك اعتراف وقناعة واسعة الآن أن الثورة لن تسقط النظام طالما بقيت هاتان المدينتان غير معجبتين بالثورة ولاتنظران اليها بعين الارتياح بل بعين الشك والريبة والاتهام بالاختراق من قبل الأغراب..كما أن النظام يعول عليهما كثيرا .. ولذلك بدت هناك حاجة ماسة لسوق هاتين المدينتين سوقا وبالقوة الى معسكر الثورة .. وذلك بالضغط على النخب الاقتصادية والتجارية فيهما ..والرسالة واضحة وهي أن الاستقرار والهدوء اللذين تنعم بهما هاتان المدينتان ويتسببان في استمرار انسياب اقتصادهما نسبيا لن يترك بسلام ..وأن ماتعانيه مدن أخرى لابد أن تتذوقه هاتان المدينتان ..وعلى تجار دمشق واقتصاديي حلب ادراك أن النظام لا يقدر على حماية دمشق (أو مؤسساته في دمشق مثلا) كما أن زعزعة أمن الناس سيتسبب في زعزعة الاستقرار الاقتصادي فيهما وتأثر عائدات النخبة التجارية والاقتصادية فيهما ..والمطلوب هو أن تقرر الفعاليات التجارية والاقتصادية فيهما الانفكاك عن الارتباط بالنظام وعدم توفير الغطاء الكافي له ..أو على الأقل الوقوف بعيدا عنه واظهار التمرد ليتسنى للثورة الاجهاز عليه بعد خوض معركة حاسمة معه بدعم غربي-عربي كامل ..

ولاشك أن هناك بعض المعطيات التي تؤيد هذا التفسير وخاصة أن منظر الثورات العربية والجاسوس الاسرائيلي عزمي بشارة قال على الجزيرة في آخر مقابلاته في نهاية عام 2011 انه يتوقع بقوة ان تتحرك دمشق وحلب ..وهناك ماسيدعو هاتين المدينتين للتحرك كما تنبأ.. وكان ذلك اشارة ضمنية بأن الثورة ستعمل لتحقيق هذا الهدف ..وعلى اللبيب أن يتوقع كيف سيتم اطلاق دمشق وحلب.. علاوة على ذلك فان أدبيات الثورة كلها صارت تتساءل عن غياب دمشق وحلب و"غيبوبتهما الثورية".. والبعض صار حائرا في الوسيلة الناجعة لتحريكهما فيما البعض الآخر أبدى امتعاضه الشديد مما سماه تخاذل الدماشقة والحلبيين ووجّه اهانات وتهم الجبن والعمالة والنذالة لهم ودعا لمعاقبة الدماشقة والحلبيين.. بأي ثمن!! وسوقهم الى الحرب وما سماه "الخدمة الالزامية" في الثورة.. ولو كان على طريقة السفربرلك..

ربما عكست هذه القراءة الثورية لتطوير الأحداث شيئين..الأول هو أن "الثورة" صارت تعرف نقطة ضعفها وتدرك أن مشروعها يقترب من السقوط اذا لم تلجأ لمغامرة ومقامرة .. وفي خطوة الثوار والمعارضين مقامرة كبيرة ..لأن رد فعل الدماشقة وأهل حلب لايمكن التنبؤ به ..فهو قد لايكون بالضرورة كما يتمناه الثورجيون ..وربما لم تمت الثورة بالضربة القاضية حتى الآن لأن دمشق وحلب (كمحور داخلي على الأقل) لم تعطيا اشارة البدء للسلطة كي تكسر عنق الاحتجاجات بعنف ..السلطة التي لاتزال تكن احتراما لمشاعر دمشق وحلب ونخبهما اللتين تظللان بقية المحافظات وتمارسان دورا ايجابيا بين السلطة والمدن التي تشهد الفوضى ..والنظام يقدر لهاتين المدينتين دورهما الايجابي في هذه الأزمة وسيقبل بدورهما الذي يضمن عدم انفلات غضب الدولة على المناطق المتمردة على سلطة القانون والنظام ..
وتحاول الثورة الاستفادة من درس عملية الازبكية في الثمانينات والتي كانت نقطة تحول عندما تسببت في ردة فعل سلبية تجاه الاخوان المسلمين.. لذلك تجهد الثورة في ضرب اقتصاد دمشق ونفي التهمة بشدة والصاقها بالنظام علّ الناس تصدق التهمة وتنقلب على النظام فتضرب الثورة بذلك عصفورين بحجر واحد ..التجار واهتزاز قلوب الناس ضد النظام بعكس الحال في الثمانينات..
لكن العمل على اثارة دمشق أو حلب على النظام بمعاقبتهما بالنسف "الثوري" حماقة بلاحدود .. فالمشاعر الوطنية لايمكن اسقاطها بالتفجيرات ولايمكن سوق الشعوب والناس الى المعارك بالقوة .. فعهد السفربرلك لن يعود ..والثورجية يعتقدون ان سوق دمشق وحلب الى السفربرلك سياسة قد تعمل .. لكن نتيجة السفربرلك في التاريخ كانت نهاية من أقبل على حماقة سوق الناس بالقوة الى معاركه ..
الحقيقة التي لايعرفها الثورجية هي أن الفعاليات الاقتصادية والتجارية والنخب الشامية والحلبية لاترى في مشروع الثورة مايطمئنها على مستقبلها كما لمست من نقاشاتي الصريحة مع بعضها ..لأن اخطار انتصار الثورة عليها أكبر بكثير من أخطار عدم انضمامها لتأييد التغيير وذلك لأسباب منطقية وهي أن انهيار الدولة السورية الحالية المتمثلة بالنظام سيعني امتدادا لنفوذ لامتناه للاقتصاد التركي وربما للاسرائيلي الذي ينسق مع التركي الذي لن يقدم كل هذا الدعم مجانا للثورجية ويريد مقابله نفوذا اقتصاديا مطلقا على  حساب اقتصادات الشرق الأوسط العربية طالما انه لم يتمكن من اختراق السوق الاوروبية .. وسيحاول بالتالي سحق الاقتصادات الشرقية واجتياحها لينمو دون عقبات ..
وهناك عامل آخر وهو أن العقود الماضية رغم أنها كانت عقودا بعثية فان هناك علاقة ودية نشأت بين النظام والبرجوازية السورية التي تحولت الى برجوازية وطنية رغم كل ماقيل عن الحرب والصراع بين الأهداف الاشتراكية للحزب والبرجوازية السورية التي عادت لتترعرع في ظل حزب البعث نفسه وصارت ترى أن مصلحتها لم تعد الا في وجود دولة قوية مستقلة ..ناهيك عن اندماجها في المشروع الوطني الكبير واستمالتها لجهة الشعارات الوطنية ككل البرجوازيات الأوروبية الوطنية ..وصارت هذه البرجوازية الوطنية تخشى من احتمال تراجع دور الانتلجنسيا والنخب الاقتصادية السورية لحساب التركية والسلفية مثلا اذا ماسقط النظام الحالي .. وبدل أن تكون دمشق محورا من محاور تسهيل صنع القرار الاقتصادي في المنطقة أو على الأقل في الداخل السوري ستتحول الى ألعوبة سياسية واقتصادية ..والصغير في السياسة لايمكن الا أن يكون صغيرا في الاقتصاد .. أما الدرس الياباني والالماني فبليغ جدا..فهذان البلدان قزمان سياسيان لكنهما عملاقان اقتصاديان ..والضخامة الاقتصادية جعلت ضآلة الدور السياسي بلامعنى تقريبا.. لكن ضآلة الدور السياسي للنخب الشامية والحلبية لن يمكن تعويضه بحجم اقتصادي كبير لأن هذا الاتجاه لن يسمح به النفوذ السياسي والاقتصادي التركي وربما الاسرائيلي عبر معاهدة سلام تفرض شروطها الاقتصادية وقد تعهد بها سرا تنظيم الاخوان المسلمين الذي بدأت مواسمه تقطف ثمارها الاسرائيلية في مصر وتونس ..وهذا ماسيرسخ الضآلة السياسية والاقتصادية معا لنخب دمشق وحلب .. دور لاتراه النخب السورية وبالذات في دمشق وحلب يتمتع بأي جاذبية وهي التي تباهي أنها تتحالف مع عملاق سياسي في الشرق الأوسط قد يرشحها يوما للعب دور اقتصادي متميز عبر طموحات تجلت في ربط البحار الخمسة ولم يعكره سوى خطيئة السخاء مع اقتصاديي أردوغان الذي طعن الجميع في الظهر..
كما أن هناك خطرا شديدا من انهيار النظام تراه البرجوازية الدمشقية والحلبية ويتمثل في استحضار أوليغارشيا حديثة شرهة تشبه الاوليغارشيا الروسية التي انبثقت من رحم انهيار الدولة الشيوعية السوفييتية والتي التهمت الاقتصاد السوفييتي وقضمت الثروة الوطنية وحولتها الى أرصدة في البنوك الغربية مما أنهك الاقتصاد وجعله رهينة لمجموعة أفراد ..لكن الاوليغارشيا القادمة على جناح الناتو وتركيا ستأكل البرجوازية الوطنية التقليدية قبل كل شيء ..ستأكلها بالعظم واللحم والجلد والثياب ..
ولعل الرهان على احداث تغيير في النظام لايبدو سهل المضغ ولاالبلع ولا الهضم طالما أن ثمنه سيكون باهظا جدا وطالما أن البرجوازية الوطنية السورية (باستثناء المهاجرة منذ الستينات مثل آل سنقر وغيرهم) لاترى وضوح المشروع البديل بل ترى مشروعا غربيا يحاول حل أزماته الاقتصادية بالهجوم على اقتصادات الشرق لابتلاعها وابتلاع البرجوازيات الوطنية والحاقها بعجلته..

ومهما كانت هذه القراءات لأسباب تفجيرات دمشق فانها دلائل قوية على أن الثورجيين والاستانبوليين في حيرة من أمرهم فهم يريدون احداث خرق كبير في الأحداث بأي ثمن ..ويبدو أن عملية ادارة الثورة قد خرجت من أيديهم كليا وأن غرفة العمليات الغربية والتركية قد قررت تولي ادارة الدفة وتوجيه الأزمة بشكل دراماتيكي ..وهم تحولوا الآن بالكامل الى مستمعين في الصف ..
ولكن للسلطة قول فيما يحدث .. وعليها الآن أن تقول كلمتها ..والناس ينتظرون منها الآن عبارة فاصلة حاسمة .. ودمشق وحلب لاتريدان سماع رسائل الثورجية بعد اليوم ..ولاتريدان فلسفة السفربرلك التي يجيدها الأتراك ومن تربى في حضن الأتراك ..بل تريدان ابلاغ رسائل أخرى مغايرة للثورجيين .. الغارقين في الظلام ..ويريدون اغراق الجميع فيه..

وكأني هذه الأيام أسمع طفلاً صهيونياً يقف الآن على سطح بيته ويقول لأبيه جزعا: ماأكثر الاسلاميين العرب وماأكثر الثورات العربية ياأبي.. فيرد أبوه ساخراً: لكنهم غارقون في الظلام الدامس ويخوضون في الدم.. دم أهلهم وليس دمنا ..هذا هو "الظلام المضيء" لنا ياولدي.. ظلام الاسلاميين الأحمر..