موت الأسئلة وعصر الفلسفة الثورية تعلنه سيدة من دمشق

 في اليوم الأخير من عام 2011 اكتشفت ان الفلسفة قد أنهت مهمتها من الوجود الانساني وأن كل الأسئلة الفلسفية الكبرى قد تمت الاجابة عنها.. وأحسست أن ايمانويل كانت وتوما الاكويني وباروخ سبينوزا وفريدريك نيتشه وجان بول سارتر والفارابي والكندي والمعري وابن رشد وابو حامد الغزالي وكونفوشيوس وأرسطاطاليس وكل رهط الفلاسفة في التاريخ البشري قد ضيعوا عمرهم هباء وأنهم أفنوا حياتهم في التساؤلات الفاسفية الكبرى التي اكتشفت في الأيام الأخيرة من عام 2011 أنها كانت الملهاة الكبرى.. فالسؤال لم يعد هو: هل الله موجود أم لا؟ ولم يعد السؤال هو: ماهي الغاية من الوجود؟ وكيف سينتهي الوجود؟ بل هناك السؤال الكبير الذي ابتلع كل هذه الاسئلة التي أحيلت على المعاش في الفلسفة البشرية.. سؤال تكرر بالأمس في كل ثانية..
بالأمس لم أجد برنامجا على التلفزيون في كل الفضاء الاعلامي العربي الا وهو يسأل نفس السؤال الوجودي القلق وهو: هل سيبقى الرئيس بشار الأسد في الحكم؟ يالقوة الله.. والفلسفة !!
 
وبالطبع ألحقت أسئلة صغرى بهذا السؤال العملاق الذي صار يشغل حتى ثوار بوكو حرام في نيجيرية وعلماء وكالة ناسا الامريكية أسئلة من مثل: كيف ستؤول الأوضاع في سورية ..؟ والى أين سيلجأ الرئيس السوري؟ وفي أي شهر ستنتصر الثورة السورية؟
ولاشك أنني استمعت لكل النابئين من مايك فغالي الى ماغي فرح وميشال الحايك والى عشرات السياسيين والمحللين العرب على كل الفضائيات وغيرهم والذين اختلفوا حول الجواب .. وبالتأكيد استمعت الى زعيم المنجمين ودرة المحللين السياسيين وذهبهم المصفّى عزمي بشارة الذي قررت التخصص في متابعة نبوءاته لأن عزمي تحول من العمل العقلي للفلسفة الى تجارة الغاز الثوري وبيع الاوهام والدم العربي والتنجيم السياسي ..عزمي بشارة انتقل من التشاؤم فجأة الى اليقين بسقوط النظام السوري هذا العام بالذات وأن الاقتصاد السوري الأعرج لن يكفي الرئيس بشار الأسد أكثر من عام .. وكاد يقسم الأيمان المغلظة بأن البراق الالهي ذهب به في رحلة الاسراء والمعراج الى السماء وأنه سمع في السماء حديثا وخبرا عن نهاية الرئيس بشار الأسد هذا العام تحديدا ..البراق أخذه من الدوحة الى الصخرة المقدسية "التي حررها حمد بن جاسم والقطريون الأحرار" قبل تحليقه في السماء .. حيث تحدث الله اليه وربما استشاره فيما يفعل عام 2012 ..فأشار عليه راكب البراق الثوري عزمي بشارة أن يحرك مدينتي حلب ودمشق بصناعيي الأولى وتجار الثانية .. لان الاقدار قد قررت نهاية الأسد والأقدار قررت تحريك دمشق وحلب ..ولم ينس راكب البراق عزمي أن يقول انه لاينكر أن الأسد مقاوم لكنه لن يقايض دم السوريين بمقاومة اسرائيل .. قال راكب البراق ذلك من أرض قطر ومن قصر صديقه الديمقراطي المنتخب دستوريا حمد بن خليفة آل ثاني والمحاط بالبرلمان الحر.. قال عزمي ذلك ورأينا أن الاستوديو الذي يتحدث منه في "الجزيرة" كان يتأرجح ويتمايل كسفينة عائمة مع تمايل جزيرة قطر كلها من ثقل واقلاع وهدير طائرات قاعدة العيديد والسيلية ..  

العالم واقف يحبس أنفاسه ولم يعد يعنيه فلسفة العالم القديم عن الوجود والله ..بل عن استمرار الرئيس بشار الأسد ونظام حكمه
وعن يوم اعلان النصر .. وربما كان أكثر سؤال مطروح في العالم كله هو: هل سيبقى الرئيس بشار الأسد؟؟
وأنا في هذه المقالة لن أجيب عن السؤال ولن يستدرجني هذا السؤال المصوغ في تل أبيب في آخر تقليعة للحرب النفسية على السوريين .. وكسوري وطني أنا سأطرح سؤالا أكثر عمقا ويمسني أكثر ..وهو: هل سيبقى الوطن السوري الذي عرفناه؟ وهل سيصمد المشروع الوطني الكبير للانطلاق نحو شرق أوسط بهيمنة تيار المقاومة والرفض؟ أم سنتحول الى امارات طالبانية ظلامية؟ وهل سيتحول جنرالات الجيش السوري الأبطال الى أمراء حرب يتبعون الملا برهان غليون أم الملا رياض الشقفة؟ .. هذا اذا لم يكن أميرنا الحقيقي هو الملا عمر نفسه ..

الأوطان ياسادة لايمثلها رئيس ولانظام ..بل الأوطان هي التي تبقي الرؤساء أو تستغني عنهم؟ وليست الأحلاف الخارجية .. والسؤال الأكبر هو: أين ستكون سوريا وشعبها في عام 2012 ؟ وسواء بقي الرئيس الأسد ام لم يبق فالوطن السوري هو الأهم من الجميع.. ويحضرني الآن حديث للشاعر المصري الشعبي احمد فؤاد نجم الذي فوجئ عام 1967 بمظاهرات عارمة تجتاح شوارع مصر رفضا لتنحي الرئيس جمال عبد الناصر بعد الهزيمة ..فنزل نجم الى الشارع وهناك صادف شخصا متأثرا فسأله بانفعال: قل لي .. من هو الأكبر اليوم .. الشعب المصري أم جمال عبد الناصر؟ فقال له المتظاهر الغاضب: بل مصر هي أكبر من الاثنين معا .. لاشيء اكبر من مصر ..وأنا أصرخ الآن من أجل مصر ..
وأنا أكرر ماقاله هذا المصري الوطني الغاضب وأقول ان سورية أكبر من الجميع ..ومع ذلك فسأنقل لكم بأمانة رأيي في أن الوطن السوري بغالبيته يريد الرئيس الأسد ممثلا لمشروعه الوطني وأن الشارع السوري يصدق الرئيس ولايصدق الثورة ..وان الشعب يصدق الرئيس ويؤمن أن الرئيس لن يخذله في التخلص من البطانة الفاسدة كفساد الثورة وبطانتها ..ولذلك سيحميه ويتمسك به .. والشعب لاشك أصدق انباء من الفضائيات .. خاصة  أن أهم انجازات الثورة أنها ألقت الرعب والهلع في نفوس الفقراء والآمنين والمؤمنين من هذه الثورة الغنية بالمال والنفط والغاز ودعم العربان الذين يديرون بلدانا تحولت بكاملها الى فنادق للاسرائيليين ورجال السي أي ايه .. وجل هم العربان بناء أوسع اوتوستراد للدبابات الأمريكية كما وصفهم الراحل صدام حسين ..
صدقوني كلما قررت أن أذهب في استطلاع للرأي الآخر "الثوري" ولآلامه ولوجهات نظره ولاعادة النظر فيما أكتب أحس بالاحباط .. أزور الثورة في مواقعها وفي فضائياتها وفي تنسيقياتها ليكون حكمي عليها أو لها أكثر توازنا لكن يزداد اغترابي عنها وعدم اطمئناني لها وأعرف مأزق محامي القضية الشائكة عزمي بشارة ..
ولأن العدل والتوازن يقتضي الاستماع للآخر لمعرفة تطور ومصير الثورة فأنا أتردد على الثورة وأسافر الى شوارعها كيلا يكون ميلي في صالح النظام دائما لعل لدى منطق الثورة مفتاحا للولوج الى حقائق لانعرفها أو ربما حجبها عنا ولاؤنا الشديد لآرائنا وشوفينيتنا في مواقفنا.. لكنني أعود من رحلتي وأضع حقائب السفر كثائر متعب ..لم يجد ثورة ولاثوارا ..ولم يجد تصوفا ثوريا .. ولم يجد الا ثورة الجاهلية ..  
حصيلة رحلتي كانت دوما أكثر ايلاما مما توقعت .. فقد وجدت أنني مقصر جدا في احتقار هذه الثورة وازدراء هؤلاء الثورجية ..واعذروني ان قلت مايجرح البعض ممن يهيم بالثورة لأنني لاأريد استعمال هذه الكلمة لاستفزاز الطرف الآخر.. لكن يخطئ من يعتقد أنني لم أحاول معانقة هذه "الثورة" ..وانني لم أحاول أن أبحث في وجهها عن أي شيء جميل ..وأن أتشمم رائحة ورودها ..
ماهذه الثورة التي تتحدث الي منذ عشرة أشهر بكل اللغات والمحطات فلم تقنعني حتى في أن أشرب منها كأس ماء؟؟ وماهذه الثورة التي وقفت الدنيا الى جانبها ولكن قلبي لم يطمئن لها وبقي هاربا منها كطائر سنونو صغير يقف على أغصان بين الثلوج ولايرحل الى دفء الثورة؟؟..ماهذه الثورة التي أمضيت مافات من عمري انتظرها وأنتظر الغاءها لقانون الطوارئ ولاطلاق الحريات  وعندما وصلت قررت أن أمضي مابقي من عمري في رجمها وملاحقتها ولعنها..ماهذه الثورة التي صورت حتى الحجر الصغير في سوريا ولم تصور أظافر أطفال درعا التي قيل ان النظام اقتلعها والتي قامت من أجلها الثورة .. ولم نجد الا الصور الممنتجة والمفبركة ....؟؟
هل يمكن أن يكون أحدنا عنيدا وعميلا للنظام الى الحد الذي يرى الدنيا كلها تعانقه فلا يغادر رصيف السلطة؟ هل يمكن لأحدنا أن يكون عقله قد تكلس وتحجر وصار مستحاثة ولايقبل بهذه الثورة رغم كل ما تحاول قوله ورغم كل لطمياتها؟؟ هل بلغت قسوة قلوبنا أننا نسكت عما يقال من جرائم النظام ونبررها ولاترى عيوننا عيون الأرانب البريئة في عيون الثوار؟؟ لماذا نقف بهذا العناد ضد الثورة ونسمي أعمالها جريمة؟
لاشيء يساوي الحديث الى شوارع الثورة ذاتها والناس الذين يحتكون بها .. وكل الثرثرات والاستشعار عن بعد من على الفضاء المحتل بالآخر لاتفيد ..فما يقوله سائق سيارة أجرة وبائع الخضار أبلغ من أي تقارير لرامي عبد الرحمن وشلته وأكثر تعبيرا عن الحقيقة عن وعظيات العرعور ولطمياته وبالطبع أكثر فصاحة من فلسفة عزمي بشارة ..
آخر زياراتي لمناطق الثورة كشفت لي كيف أن الناس في معاقل الثورة بدأت بالتبرم والشكوى من قسوة الثورة وأنانية الثوار ولعل اقسى العبارات ماقاله لي بائع في مدينة دوما اذ قال: ان الواحد صار يتمنى أن يقع في يد الأمن ليجادله على أن يقع في أيدي هذه الغوغاء الهمجية..وفي ريف دمشق مررت على عدد من الشوارع في المناطق الساخنة مثل حرستا حيث قادني دليل من أهل البلدة الى شارع يسمى "حي السيل" وتحدثت الى الناس الذين قطعت أرزاقهم من اصرار الثورجية على فرض الاضراب بالسلاح في مناطق سورية أخرى .. عائلات بأكملها تعتمد على ماتبيع محالها الصغيرة بالليرة والليرتين ترغم على أن تعاني ..اصحاب محلات أخرى هجروا تلك المناطق الى مناطق أخرى ليعيلوا أطفالهم لأن الثورجية يريدون فرض الاضراب ..الثورة تريد أن تنتصر من جيوب الفقراء وصغار الكسبة .. ولاتهتم بأطفالهم .. بل بأطفال قادتهم الذين يتنقلون في روضات الخليج وفرنسا وأميريكا ويتلقون التعليم الراقي ..بينما أطفال الثورة يؤخذون من مقاعد المدارس البالية في ريف دمشق ليتعلموا الصراخ ببذاءة وبراءة "الشعب يريد اعدام الرئيس" ..
أما سبب اطمئناني على الوطن السوري فهو معرفتي للسوريين واعتدادهم الشديد بوطنهم وكبريائهم الوطني .. ولايفارقني مشهد لاأنساه عندما دعيت لحضور مؤتمر لوزير الخارجية الأميريكية الأسبق وارن كريستوفرفي فندق شيراتون دمشق بعد احدى جولاته المكوكية ولقاءاته مع الرئيس حافط الأسد .. يومها وصلت قبل بدء المؤتمر بلحظات وعندما وصلت وجدت حرس الوزير الأميريكي وقد اعترضوا سيدة سورية تبدو من مظهرها ومشيتها أنها تنتمي الى عائلة راقية كانت تهم بالمرور من جانب القاعة فوقف الحراس الثلاثة في الممر في وجهها .. لكنها اصرت على المرور .. فقلت لها متبرعا بالشرح انهم حرس الوفد الأمريكي والسيد كريستوفر .. وتوقعت أن ذلك سيجعلها تهدأ وتقرر الانصراف فما كان منها الا أن توجهت لهم وقالت بانكليزية "دمشقية": لأنكم أمريكيون سأمر من الممر ولن أغير مساري .. ثم دفعتهم عن طريقها .. لكن الحارس أصر على منعها وأمسكها فنظرت السيدة اليه وقالت: يبدو أنك لاتزال تتوهم أنك الآن في الولايات المتحدة أو جمهورية موز أو مملكة نفط .. تذكر أيها السيد أنك هنا في دمشق .. هذه دمشق ألا تفهم ؟؟!! ثم تخلصت من يده ومشت بكبرياء في الممر والحارس ينظر اليّ ويتبادل النظرات الحيرى مع زملائه ..
ماأعرفه أن هناك زعماء غربيين يتصرفون مع الرئيس الاسد بنفس طريقة الحرس الأمريكي للسيد كريستوفر ..لأنهم يحرسون اسرائيل ذاتها .. وماأعلمه كاليقين انهم ابلغوه رسائل تهديد قاسية منذ اشهر ..رسائل كافية لاستسلام قياصرة وخلفاء وأمراء وملوك .. وأنا لاأعرف ماذا كان رد الرئيس الأسد ..لكنني عرفت ان احدهم قال لحكومته: اننا امام رجل ايمانه وثقته بنفسه كالفولاذ ..
وأستطيع أن أخمن لماذا يبدو الرئيس الأسد واثقا بشعبه .. لأن لديه شعبا يقول ماقالته تلك السيدة لحرس الوزير الأمريكي التي عرفت لاحقا أنها من احدى أعرق عائلات دمشق ..وتشرفت بمعرفتها وأفتخر بصداقتها .. وسأقول باسمها للعالم الذي ينتظر رحيل الأسد في عام 2012 :

يبدو أنكم لاتزالون تتوهمون وتعتقدون أنكم تسقطون شعبا في جمهورية موز أو امارة نفطية.. تذكروا أيها السادة أنها دمشق.. هذه دمشق ألا تفهمون؟؟!!
ان موت الأسئلة وعصر الفلسفة الثورية تعلنه سيدة اسمها.. دمشق